حوار مع النفس

تركيا واليونان ومخاطر تصعيد التوترات

محمود علوش

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (يمين) ورئيس الوزراء اليوناني السابق ألكسيس تسيبراس يتصافحان بعد عقد مؤتمر صحفي مشترك في أنقرة عام 2019 (رويترز)

على مدى عقود طويلة من العلاقات المضطربة بين تركيا واليونان، كانت الخلافات المزمنة بينهما بشأن مجموعة من القضايا -من تسليح جزر بحر إيجه، إلى المجال الجوي، والحدود البحرية، والمسألة القبرصية، وغيرها- مصدر توتر دائم. في بعض السنوات، وصل التوتر إلى حافّة الصدام المسلّح، لكنّ امتلاك القادة اليونانيين والأتراك حكمة تقدير العواقب، ساعدهم في تجنّب سيناريو الحرب وإدارة الخلافات بالحوار، أو حصرها ضمن نطاق التصعيد السياسي، وفي بعض الأحيان الاستعراض العسكري.

في مثل هذا النوع من الأزمات بين الدول، فإن الخلافات عميقة بما يكفي لتبدو عصية على الحل. فهي ليست نتاج تنافس تقليدي بين بلدين جارين سبق أن خاضا حروبا عديدة فحسب، بل هي مرتبطة أساسا بظروف نشأتهما الحديثة. لذلك، لا تبدو مصادفة أن يتزامن التصعيد الجديد في التوترات مع ذكرى مرور 100 عام على انتصار الأتراك في معركة دوملوبونار أثناء حرب الاستقلال التركي ومع اقتراب مئوية تأسيس الجمهورية التركية.

إن الشعور المتزايد بتراجع أهمية اليونان في السياسات الإقليمية والغربية، مقابل تزايد أهمية تركيا، يُغذي النزعة العدائية اليونانية تجاه أنقرة.

إنّ تراجع حكمة تقدير العواقب وصعود النزعة العدائية المتبادلة والبيئة العالمية المضطربة، تُشكل مُجتمعة وصفة مثالية لنقل التوترات إلى مستوى أكثر خطورة.

الأسبوع الماضي، أخذ التوتر التركي اليوناني أشكالا جديدة، بعد اتّهام الرئيس رجب طيب أردوغان اليونان باحتلال بعض الجزر في بحر إيجه، وقوله إن تركيا مستعدة لفعل ما يلزم عندما يحين الوقت المناسب. لم يسبق لأردوغان أن استخدم هذا الوصف في السابق رغم التشكيك التركي المتزايد بالسيادة اليونانية على الجزر.

وكان أردوغان يرد على حادثة إغلاق أثينا قبل أيام أنظمة استهداف الرادار على المقاتلات التركية بينما كانت تقوم بجولة فوق بحري إيجه وشرق المتوسط. التصعيد الجديد له ما يُفسّره. تُؤجّج النزعة العدائية المتزايدة للقادة اليونانيين تجاه تركيا التوترات معها. صعّدت أثينا في السنوات الأخيرة من عملية تسليح الجزر القريبة من تركيا بذريعة الدفاع عن النفس، وحوّلتها إلى مخازن أسلحة في خرق للمعاهدات الدولية التي تحظر تسليح الجزر، كما نشرت عشرات الآلاف من الجنود في بعض الجزر كرودس وليسبوس، وبنت مطارات عسكرية في جزر ليمنوس ورودوس وكوس. بالنسبة لأنقرة، فإن التسليح اليوناني لتلك الجزر كفيل وحده بمنح مشروعية لتشكيكها في السيادة اليونانية عليها.

بالنظر إلى العلاقات العسكرية القوية التي أقامتها أثينا مع بعض الدول الغربية في السنوات الأخيرة، فإن الحماية الغربية التي تحظى بها، تجعلها أكثر جرأة في استفزاز تركيا دون القلق الكافي من العواقب.

يشعر اليونانيون أيضا أن البيئة الإقليمية والدولية لم تعد مساعدة لهم لتقوية موقفهم. استطاعت تركيا في العامين الأخيرين إصلاح علاقاتها مع عدد من القوى الإقليمية الفاعلة التي دفعتها الخصومة معها إلى دعم أثينا، وتحوّلت أنقرة إلى محط اهتمام العالم بعد الحرب الروسية الأوكرانية. كما تجد اليونان نفسها اليوم ضعيفة في معادلة صراع الطاقة شرقي البحر المتوسط. لم تعد هناك حماسة إقليمية وغربية لدعم مشاريع نقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا بمعزل عن تركيا. تبحث أنقرة وتل أبيب سبل القيام بمشاريع تعاون في مجال الطاقة بعد إصلاح علاقاتهما.

في الواقع، فإن الشعور المتزايد بتراجع أهمية اليونان في السياسات الإقليمية والغربية مقابل تزايد أهمية تركيا، يُغذي من النزعة العدائية اليونانية تجاه أنقرة. بالنظر إلى العلاقات العسكرية القوية التي أقامتها أثينا مع بعض الدول الغربية في السنوات الأخيرة، فإن الحماية الغربية التي تحظى بها، تجعلها أكثر جرأة في استفزاز تركيا دون القلق الكافي من العواقب.

المشاكل التركية اليونانية مؤرقة على الدوام لحلف شمال الأطلسي الذي يتعامل بحساسية شديدة مع خصمين ينتميان إليه. لكنّ انجراف بعض أعضاء الناتو -كالولايات المتحدة وفرنسا- نحو اليونان زاد من تعقيد الوضع. في مسعى للضغط على أنقرة بسبب خياراتها الجيوسياسية المختلفة عن الغرب، عمّقت واشنطن وباريس في السنوات الأخيرة من شراكتهما العسكرية مع أثينا مُستغلتين حاجتها إلى دعم غربي لتقوية موقفها العسكري والسياسي في النزاع مع أنقرة.

مؤخراً، أقرّ الكونغرس الأميركي قانونا يشرط الموافقة على بيع تركيا مقاتلات إف-16 (F-16) جديدة بعدم استخدامها في المجال الجوي التي تقول اليونان إنه يقع ضمن نطاقها، كما لا تُخفي أنقرة انزعاجها من الدعم العسكري الغربي لليونان والوجود العسكري الأميركي المتزايد في البلدات اليونانية الحدودية مع تركيا. تبدو تركيا واقعية في مخاوفها من الانتشار العسكري الأميركي في اليونان، والوجود البحري الأميركي في جزيرة كريت، لأنه سيؤدي مع مرور الوقت إلى تكريس وضع جيوسياسي جديد يضغط على أنقرة ويُهدد مكانتها كشريك إستراتيجي رئيسي للغرب في هذه المنطقة.

بعد الحرب الروسية الأوكرانية، سعت الدول الغربية إلى تهدئة خلافاتها مع تركيا بسبب تزايد قيمتها في الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب. هذا الأمر يُقلق القادة اليونانيين على وجه الخصوص، لأنّه يجعل الغربيين أقل استعدادا للمخاطرة في تحدي حليف ذي قيمة إستراتيجية كبيرة، من أجل حليف آخر لا يمتلك نفس القيمة.

مع ذلك، تجد أثينا في الاحتضان الغربي لها وسيلة لدفع الغربيين إلى التورط في لعبتها ضد تركيا. أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، حثّ رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أعضاء الكونغرس الأميركي ضمنا على تقييد طلب تركيا شراء مقاتلات جديدة من طراز إف-16. الولايات المتحدة هي زعيمة حلف الناتو، ودورها أساسي في إدارة الخلافات بين أعضائه. في الحالة التركية اليونانية، تفعل واشنطن العكس، وتنظر إلى النزاع على أنه فرصة لها للضغط على تركيا ومعاقبتها على سياساتها الخارجية الأكثر استقلالية عن الغرب، ودفعها إلى الحد من تنامي علاقاتها مع روسيا في السنوات الأخيرة.

على عكس المراحل الماضية التي لعبت فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دوراً رئيسياً في احتواء الخلافات التركية اليونانية وتشجيع البلدين على الانخراط في الحوار والدبلوماسية، فإن الظروف السياسية الداخلية المضطربة في كلا البلدين، والبيئة العالمية المتوترة التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، فضلاً عن غياب شخصية أوروبية مؤثرة وقادرة على التأثير الإيجابي في الأزمة على غرار المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، تجعل التوترات بين أنقرة وأثينا مرشّحة لمزيد من التصعيد في الفترة المقبلة.

إن الحرب هي أسوأ الخيارات بالنّظر إلى تكلفتها الكبيرة على الجانبين، لكنّها يُمكن أن تندلع بسبب خطأ عسكري غير مقصود أو سوء تقدير لعواقب اللعب في دائرة الخطر. ومما يزيد من المخاطر أن تركيا مقبلة على انتخابات شديدة الأهمية منتصف العام المقبل، فيما اليونان تسير أيضا باتجاه احتمال إجراء انتخابات مبكرة في الأشهر المقبلة. كما أن كلا البلدين يُعانيان من ضغوط اقتصادية متزايدة جراء التضخم والاضطرابات الجيوسياسية المحيطة بهما، مما يعني أن جرعة إضافية من التصعيد قد تخدم أردوغان وميتسوتاكيس انتخابيا، لكنّها في المقابل قد تؤدي إلى نتائج عكسية أيضا.

محمود علوش

باحث في العلاقات الدولية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى