حوار مع النفس

إستراتيجية بايدن للأمن القومي الأميركي.. (3) تحديث الثالوث النووي

محمود عبد الهادي

الرئيس الأميركي جو بايدن (رويترز)

في هذا الجزء نتحدث عن خطة الردع المتكامل التي وضعتها إستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي قدمتها إدارة الرئيس جو بايدن، والتي تشتمل على الردع النووي الآمن والفعّال، لمواجهة التهديدات التي تمثلها الصين وروسيا وحلفاؤهما، بما في ذلك تحديث “الثالث النووي”.

انطلقت خطة الردع المتكامل من خطة وزارة الدفاع التي خصصت لها في تقرير السنة المالية لعام 2023 مبلغ 276 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي ثلث الموازنة البالغة 813.3 مليار دولار. موازنة الردع الكامل هذه هي الأكبر على الإطلاق، حسب وزارة الدفاع، منها 34.3 مليار دولار خاصة بتحديث القدرات النووية، باعتبار الردع النووي إحدى أهم أولويات الوزارة. وطبعا، فإن من شأن هذا أن يطلق السباق النووي من جديد بصورة مرعبة بين الدول التي تنتج الأسلحة النووية، لتطوير إمكاناتها التكنولوجية، وزيادة قدراتها على الهجوم والردع وتحقيق النصر.

أعلنت إستراتيجية بايدن أنه لضمان استمرار قدرة الردع النووي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها، فإنها ستقوم بتحديث الثالوث النووي والقيادة والسيطرة والاتصالات النووية والبنية التحتية للأسلحة النووية، فضلا عن تعزيز التزامات الردع الموسعة للحلفاء

احتدام السباق النووي

شددت إستراتيجية بايدن على أن الجيش الأميركي هو أقوى قوة قتالية عرفها العالم على الإطلاق، وأن الولايات المتحدة لن تتردد في استخدام القوة عند الضرورة للدفاع عن مصالحها القومية، ولكن كملاذ أخير وفقط عندما تكون الأهداف والرسالة واضحة وقابلة للتحقيق، مشددة على أن الردع النووي سيظل أولوية قصوى للأمة وأساسًا للردع المتكامل. تدعم القوة النووية الآمنة والفعالة الأولويات الدفاعية من خلال ردع الهجمات الإستراتيجية، وطمأنة الحلفاء والشركاء، والسماح بتحقيق الأهداف إذا فشل الردع التقليدي.

وفي تبرير لهذا التسابق، تشير الإستراتيجية إلى أن المنافسين والخصوم المحتملين يستثمرون بكثافة في تطوير أسلحة نووية جديدة، وأنه بحلول ثلاثينيات القرن الحالي ستحتاج الولايات المتحدة لأول مرة إلى ردع قوتين نوويتين رئيسيتين، ستعمل كل منهما على نشر قوى نووية عالمية وإقليمية حديثة ومتنوعة. وهنا تعلن الإستراتيجية أنه لضمان استمرار قدرة الردع النووي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها، فإنها ستقوم بتحديث الثالوث النووي والقيادة والسيطرة والبنية التحتية للأسلحة النووية، فضلاً عن تعزيز التزامات الردع الموسعة للحلفاء.

ويشير مصطلح الثالوث النووي إلى قدرة الولايات المتحدة على الردع والهجوم النوويين عن طريق البر والبحر والجو، باستخدام قنابل أو صواريخ باليستية موجّهة، يتم إطلاقها من منصات إطلاق الصواريخ، أو الطائرات العسكرية، أو السفن والغواصات.

يأتي هذا التحديث النوعي الذي تقوم به الولايات المتحدة لتطوير قدراتها على الردع النووي، في مواجهة التطور الذي حققته الصين وروسيا في تعزيز قدرات الثالوث النووي لكل منهما. وحسب وزارة الدفاع الأميركية في خطتها لعام 2021، فإن الصين أصبحت تستهدف المزايا العسكرية الأميركية الرئيسية، من خلال القدرات الجديدة في الفضاء، والحرب الإلكترونية، والحرب تحت البحر، والطائرات المقاتلة، والقاذفات المجهزة بصواريخ كروز بعيدة المدى وغيرها، وروسيا تعمل على تحسين أسلحتها النووية الإستراتيجية وأنظمة إيصالها بشكل شامل باستثمارات تقدر بـ28 مليار دولار عام 2020، مما يسمح لها بتحديث قدرتها في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وغواصات الصواريخ الباليستية، والقاذفات الإستراتيجية.

وقد أوضحت خطة وزارة الدفاع لعام 2021 أنها منذ عام 2016 أحرزت تقدما كبيرا على جميع جبهات المنافسة مع الصين وروسيا، عن طريق إعطاء الأولوية للتحديث والابتكار والجاهزية المتطورة، مؤكدة في الوقت نفسه أن الاستثمارات الدفاعية التنافسية وحدها لن تردع الصين وروسيا، وأن منافسة القوى العظمى تعني أنه يجب على وزارة الدفاع تطوير مفاهيم وأساليب تنظيمية جديدة لتوظيف القوة والتصميم والوضعية والقتال، وبناء المزيد من المرونة والاستجابة في نشر قوتها عالميا، بما يسمح لها بوصول قدراتها إلى النقاط العالمية الساخنة في غضون مهلة قصيرة.

كما ذكرت وزارة الدفاع الأميركية في خطتها لعام 2022، أن الوزارة تلقت دعمًا قويا مؤكدا من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) في الكونغرس لتحديث الردع النووي، إذ إن أنظمة الردع النووي الحالية تم بناؤها في الثمانينيات وما قبلها، وينتهي عمرها من الخدمة في الفترة من 2025 إلى 2035، مع تمديد جميع الأنظمة الموجودة حاليًا إلى ما بعد فترة خدمتها الأصلية.

تؤكد الإستراتيجية أن للولايات المتحدة مصلحة حيوية في ردع عدوان الصين وروسيا ودول أخرى، وأن عليها المحافظة على زيادة قدراتها على الردع، مع التشديد على أن الصين هي التحدي الأكبر الذي تواجهه أميركا حاليا

خطة الردع المتكامل

وضعت إستراتيجية بايدن خطة لـ”الردع المتكامل” للصين وروسيا، مشيرة إلى أن للولايات المتحدة مصلحة حيوية في ردع عدوان الصين وروسيا ودول أخرى، وأن عليها أن تحافظ على إستراتيجية زيادة قدراتها الدفاعية على الردع، مع التشديد على أن الصين هي التحدي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة حاليا.

تعتمد خطة الردع المتكامل على مزيج سلس من القدرات لإقناع الخصوم المحتملين بأن تكاليف أنشطتهم العدائية تفوق فوائدها. ويغطي التكامل المجالات التالية:

التكامل عبر المجالات:

فالإستراتيجيات المنافسة تعمل في المجالات العسكرية (البرية والجوية والبحرية والسيبرانية والفضائية) وغير العسكرية (الاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية)، وأن على الولايات المتحدة وحلفائها القيام بذلك أيضا.

التكامل عبر المناطق:

إذ إن منافسي الولايات المتحدة يجمعون بين الطموحات التوسعية والقدرات المتزايدة لتهديد المصالح الأميركية في المناطق الرئيسية من العالم، وفي الولايات المتحدة كذلك.

التكامل في النطاق الشامل للصراع:

لمنعِ منافسي الولايات المتحدة من تغيير الوضع الدولي الراهن بطرق تضرّ بمصالحها الحيوية، في وقت تتحرك فيه هي حول الحد الأدنى للصراع المسلح.

التكامل من خلال الحكومة الأميركية:

للاستفادة من مجموعة المزايا الأميركية، الدبلوماسية والاستخباراتية والاقتصادية والأمنية وقوة اتخاذ القرارات.

التكامل مع الحلفاء والشركاء:

من خلال الاستثمار في العمليات البينية، وتنمية القدرات المشتركة، والتعاون في تخطيط الموقف، والتنسيق الدبلوماسي والاقتصادي.

وتشدّد الإستراتيجية على أن الردع المتكامل يتطلب التنسيق والتواصل والابتكار بشكل أكثر فاعلية، بحيث يفهم أي منافس يفكّر في الضغط من أجل تحقيق تفوق في مجال واحد من المجالات، أنه سيواجه بتفوّق الولايات المتحدة وحلفائها في العديد من المجالات، وهذا يزيد من دعم القدرات القتالية التقليدية والإستراتيجية ذات المصداقية، مما يسمح للولايات المتحدة وشركائها بتشكيل تصورات أفضل حول الخصم، ومخاطر وتكاليف التحرك ضد المصالح الأميركية الأساسية، في أي وقت وعبر أي مجال.

العجيب أن الإستراتيجية تؤكد أنها لا تسعى إلى صراع أو حرب باردة جديدة، وأنها تعمل وفق برنامج إيجابي لتعزيز السلام والأمن والرخاء والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، وأنها تعمل ذلك من أجل الدفاع عن عالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن، وأن الولايات المتحدة ستتعاون مع أي دولة تدعم “النظام العالمي القائم على القواعد”، فهذا النظام هو أساس السلام والازدهار في العالم، حسب الإستراتيجية.

فهل إعادة إطلاق السباق النووي هي التي ستحقق ذلك؟ هل هذا التصعيد المهول في أنظمة الردع النووي ومعداته وقذائفه وصواريخه هو الذي سيحقق للولايات المتحدة تفوقها في المنافسة مع الصين، وسيمكنها من التغلب على التهديد الحاد الذي تشكّله روسيا للولايات المتحدة، حسب الإستراتيجية؟ أم إنه تفرد الزعامة والأنانية والاستكبار، الذي يجعل الولايات المتحدة لا ترى إلى ما تبصره عيناها؟ هل هذا فعلاً كل ما تحتاجه واشنطن وشركاؤها للفوز في المنافسة في القرن الحادي والعشرين، حسب الإستراتيجية؟ ألا توجد طرق وأساليب وآليات أخرى لمعالجة حدة المنافسة واحتواء التهديدات التي تمثلها القوى الصاعدة؟ لماذا لا تستجيب الولايات المتحدة لملاحظات وانتقادات ومطالبات هذه القوى، وتعيد بناء النظام الدولي برؤية تشاركية، تحقق مصالح جميع الأطراف، وتنقذ البشرية من الفناء، وتؤسس لمرحلة أكثر عدالة وتكاملاً، وأقل توترا وصراعا؟

فهل تفعل؟ المؤسف أن ظاهر الأمر يشير إلى أنها لن تفعل.

(.. يتبع)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى