الشيخ الشعراوي.. وبوصلة المصريين
هشام الحمامي 19
يتعرض الشيخ الشعراوي لهجوم من الإعلام الموالي للنظام في مصر
يقولون إن الأفكار لا تنتمي لمن يكتبونها بقدر ما تنتمي إلى من يحتاجونها.. ويصح أن تنطبق هذه المقولة القوية على كثيرين من المفكرين والمثقفين والعلماء، لكنها تنطبق في أوضح وضوح لها على فضيلة الشيخ متولي الشعراوي (ت: 1998م) رحمه الله. والظاهرة من الجلاء والوضوح إلى حد أن النقاش حولها يماثل النقاش حول الشمس في النهار أو الماء في البحر والأنهار.. والمشكلة ليست في الإقرار بذلك، لكن المشكلة في منع استمرار ذلك.. وهو ما يفسر لنا حالة الهياج والسعار في الهجوم المتكرر على فضيلة الإمام رحمه الله..
والحق فقد كان الأزهر وشيخه الجليل على وعي تام بأصل الموضوع، فكان أن قال عبر الصفحة الرسمية له على موقع فيسبوك: “الشعراوي وهب حياته لتفسير كتاب الله وأوقف عمره لتلك المهمة، فأوصل معاني القرآن لسامعيه بكل سلاسة وعذوبة، وجذب إليه الناس من مختلف المستويات، وأيقظ فيهم ملكات التلقي”..
واضح أن الكلمات بارعة الانتقاء، ليس فقط في بلاغتها البيانية ولا حتى دلالتها التصويرية ولا قوة مرادها، ولكن في دقة توصيفها للحالة بأكملها.. حالة الشيخ وحالة الناس.. وحالة المتطاولين على الشيخ والناس. وأتصور أنها من انتقاء فضيلة الإمام الطيب، شيخ الجامع الأزهر الذي تتصف تصريحاته دائما بالعمق والدقة والنفاذ والإعراض عن الخصومات التافهة.
* * *
“.. إن الهجوم على الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله هي خطة ممنهجة، ومؤامرة محكمة، مدروسة موضوعة بعناية فائقة، ولها جيش كبير، يدار من وراء الأكمة، ويقسم لفرق، كل فريق له عمل محدد، وطريق واضح يسير فيه، وعمل يؤديه. ويستقدمون جنودا، ويغرونهم بالمال والشهرة وغيرها.. إن كل ذلك يحدث لتحطيم القدوات ليضل المهتدي ويتوه المقتدي.”.
هكذا قال الدكتور محمد عمر أبو ضيف، أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر.. والكلام ليس فيه مبالغة خطابية.
لا ليس كذلك، بل لقد ذهب الرجل إلى توسيع دائرة الموضوع فوق أرض الموضوع نفسه.. وأرض الموضوع هو “الدين” بكل ما يمثله من قوة ارتكاز صلبة لفكرة النهضة وفكر الإصلاح.. الأستاذ هيكل (ت: 2016م) قالها.. “لا نهضة للشرق في غياب الإسلام”.. رغم بُعد ما بينه وبين الفكرة الدينية.
كما أن كل فكر الإصلاح في العصر الحديث بدأ وانطلق وامتد من الدين.. كما قال لنا د. أحمد أمين (ت: 1954م) في كتابه العمدة “زعماء الإصلاح في العصر الحديث”.
* * *
وهكذا هو الأمر وهكذا هي الحقيقة، ولا مجال لنقاش وجدل حول ذلك، بكل المقاييس الحضارية والتاريخية والعلمية والموضوعية، هو كذلك ولن يكون إلا كذلك.. وهنا تحديدا نستطيع أن نستوعب ونفهم ونتفق مع تصريح الدكتور أبو ضيف، التصريح الذي “موضَع” نفسه بنفسه في قصة الصراع الكبير القديم الجديد بين الشرق والغرب..
* * *
لكن هذا لن يأخذنا بعيدا عن استدعاء أنوار الرجل الذي يعد بالفعل أهم ظاهرة دينية إسلامية ظهرت منذ أيام الأئمة الكبار أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن تيمة وابن حنبل.. كما قال د. يوسف إدريس (ت: 1991م).. وهو موقف كريم من أهم قلم عربي كتب القصة القصيرة في العصر الحديث خاصة أنه قال ما قال بعد خصومة وجدل بين الرجلين.. لكن القامات الكبيرة فعلا تظل كبيرة دائما.
الموقف نفسه حدث مع الراحل د. زكي نجيب محمود (ت: 1993م)، حين تحدث الشيخ عن فكرة النزول على القمر والإنفاق الهائل على ما هو خارج كوكب الأرض.. وكان يرى أن هذا الإنفاق وهذا الجهد لو أُنفق على البحث العلمي والصحي لكان أكثر فائدة للبشرية.. فرد عليه د. زكى نجيب محمود في الأهرام بطريقة حادة كعادته وقتها حين كان يناقش أي موضوع يتصل بالدين.. وهو ما تغير منه بعدها رحمه الله.. وانتهى الموضوع باعتذار من جريدة الأهرام وزيارة الدكتور زكي نجيب لفضيلة الشيخ.. وهو ما نتذكره أيضا مع الكاتب والمفكر توفيق الحكيم رحمه الله..
* * *
لم يحب المصريون “شخصية عامة” مثلما أحبوا الشيخ الشعراوي.. ولم يجمع المصريون على “عالم دين” مثلما أجمعوا على الشيخ الشعراوي.. ولم يُقبل المصريون على “درس ديني” مثلما أقبلوا على دروس الشيخ الشعراوي.. ليس فقط لكل مزاياه التي وصفها هو للدكتور حسين مؤنس (ت: 1996م) بأنها “فضل جود لا بذل مجهود”، وذلك حين سأله د. مؤنس رحمه الله عن مصدر كل هذا “البيان” الذي يكاد يكون اختصه بكل أسراره.. ليست المزايا فقط.. ولكن أيضا لحاجة المصريين الماسّة إليه في هذا التوقيت البارع، إذ “ليس هناك جيش أقوى من فكرة حان وقتها”.. كما قال لنا الروائي الفرنسي الشهير فيكتور هوجو (ت: 1885م).. وقد كان هو ذاك بالتمام والكمال ما حدث مع حبيب المصريين الشيخ متولي الشعراوي..
* * *
جاء الرجل وجاءت معه أفكاره في وقت من أكثر أوقات المصريين ظلاما وإحباطا (1967-1973م).. أكاذيب الخمسينيات والستينيات التي طالما مضغها “الزعيم الخالد” مضغا وألقاها على مسامع العرب والمصريين خطبا وشعارات ومقالات وغناء وأناشيد تحولت الى أصوات بوم وغربان.. واستفاق الناس من المحيط الى الخليج على الإسرائيليين وهم يهددون ثلاث عواصم عربية (القاهرة ودمشق وعمان) والأسوأ احتلال القدس ومنع الأذان والصلاة في المسجد الاقصى..
كانت آلام الناس قاسية وأحزانهم عميقة، وإذا بهم فجأة يجدون أنفسهم في الطرف الآخر للحياة “مقهورين لا يدرون لهم اسما أو وطنا أو أهلا..” كما قال الشاعر صلاح عبد الصبور (ت: 1981م).. وبدا لهم أن لا ملجأ لهم مما هم فيه، إلا باللجوء إلى من لاحول ولا قوة إلا به.. الخالق العلي العظيم..
* * *
وهنا سجد الشيخ لله.. فقد كانت الهزيمة أشبه بخرق السفينة وقتل الغلام، في الوعي العميق بالرواية الصامتة مما لا نفهمه ولم نحط به خبرا.. والذين استمعوا إلى الأكاديمي المعروف المؤرخ د. خالد فهمي في حديثه المهم “الهزيمة المستمرة” عبر 12 حلقة مصورة (من 14 أيار/ مايو إلى 21 تموز/ يوليو 2022)؛ سيكتشفون أنه خلال هذه الهزيمة كان هناك من هو أكثر امتنانا من فضيلة الشيخ على تلك الهزيمة.. لقد كان الزعيم الخالد نفسه!!.. نعم..
فقد كان فيها الخلاص من صديقه الحميم “المشير عامر” الذي تمدد طولا وعرضا في ربوع الأرض، وبات تهديدا مباشرا له ولسلطانه الذي حازه على حساب الأمن القومي المباشر للبلاد.. بعد صمته المريب عما كان يحدث في جيش مصر العظيم، حفاظا على أمنه الشخصي وتفرده بالسلطان..
* * *
أي تلميذ في أي مدرسة ثانوية قرأ وعرف قصة “الهزيمة المستمرة” يدرك تماما بسهولة وبساطة أن ما ذكره الشيخ عن تفاعله مع الهزيمة لم يكن إلا تفاعل الوطني الذي أضناه الوجع على حال وطن وشعب ما كان ليستفيق إلا بمثل ذلك من فظيع الأحداث.. كما قال الروائي الروسي تشيكوف (ت: 1904) عن الحرب اليابانية الروسية سنة والتي انتصرت فيها اليابان “هذا فظيع! لكن لا يمكن بدونه.. فليحركنا اليابانيون من مكاننا”.. كما ذكر صديقه المخرج المسرحي قسطنطين ستانسلافسكى في مقدمة أعماله الكاملة.
* * *
يصح إذن أن يكون هذا العالم الكبير والشيخ الجليل “حالة” قائمة بذاتها.. ويصح إذن أن تكون بوصلة المصريين عرفت الاتجاه الصحيح الذي يتعين عليهم السير فيه.. فساروا.. وكان الرجل هناك ينتظرهم، فوجدوه.. وحدثهم بالقرآن فسمعوه.
لقد اتفقت كل أنواع المشاعر على التلاقي.. ويا له من لقاء.. فقد قضى الله له ألا ينقطع.. فما زال.. وهذا ما زلزل خصومه زلزالا.. ولا يزال.