وراء الحدود

أخطاء الكبار.. “كبائر”!

هشام الحمامي

 

جيتي

الشاعر العربي الكبير الحارث بن حِلزة (ت: 580م) له بيت من الشعر في معلقته الشهيرة يقول فيه:

إن السعيد له في غيره عظة    وفي التجارب تحكيم ومعتبر

وبالرغم من عمق وبساطة القول والمعنى وبالرغم من الأهمية والخطورة التي تنضح منه، إلا أن كل ذلك يذهب سدى في دنيا كل يوم من الوقائع والأحداث.. ولا يدري أحد هل هو خيلاء وغرور ابن آدم بنفسه ونظرته لها على أنها ليست كالآخرين، وأنه إذا كانت ثمة قوانين وسنن.. فلا ريب أنها ستقف عنده خاضعة.. وإذ به يقدم إقداما على ارتكاب نفس أخطاء من سبقوه، دون أي عظة أو تحكيم أو اعتبار كما يقول العم “بن حلزة”.

فهل هو القدر الغلاب؟ يقول المفكر على عزت بيجوفيتش (ت: 2003م): كم هي محدودة تلك التي نسميها “إرادتنا” وكم هو هائل وغير محدود “قدرنا”.. لكننا وفي كل الأحوال وكما قال لنا الفاروق رضى الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله.. في تجاوز عبقري بديع لحاجز الغيب الذي لا نراه ولا ندركه..! اعتبارا واحتراما لفكرة “الإرادة الحرة” التي يحملها الإنسان مهما كانت ضئيلة الأثر والتأثير ومحدودة كما قال العم “علي عزت”.

* * *

أيا ما كان الأمر.. فالحاصل أننا نعلم جميعا أن ما جرى في الشرق الأوسط من الخمسينيات إلى يوم الناس هذا ما هو إلا سلسلة متصلة الحلقات تسلم كل حلقة أختها وصلها واتصالها بها، والأمر لا يحتاج دليلا يدل عليه بقدر ما يحتاج إلى قراءة بالغة البساطة لتلك السردية الأليمة على دنيا الشرق والتي تعرف بـ”النصف الثاني من القرن العشرين”..

والحقيقة أن الإنسان يتحير أكثر مما يتألم، من كل من يتحدث عن سوءات الحاضر دون أن يكلف نفسه مشقة سحب الخيط الرفيع بين ما يتحدث عنه من سوء؛ وبين مربطه الأول الذي كان.. وهو بذلك لا يكون فقط “قليل الأدب” والمعرفة والاعتبار، ولكنه أيضا وهو الأهم “قليل الحظ”.. بل وليس سعيدا ولن يكون من السعداء أبدا..

* * *

تقول الحكاية التي وراءها ألف حكاية وحكاية، أنه عندما قام الضباط الأحرار بتحركهم ليلة 23 تموز/ يوليو 1952 م، لم يكن لديهم في الحقيقة أي تصور أو رؤية واضحة للنظام السياسي في اليوم التالي لتحركهم المبارك، لكن الأيام والأسابيع الأولى بعد نجاح الحركة كشفت عن “اتجاه عاصف” لهدم النظام القائم على فكرة “التعددية السياسية” و”تداول السلطة”.. وهو ما سيستمر طويلا طويلا بعدها.

وبدلا من تخليص النظام السياسي الذي انقلبوا ضده من عيوبه فقط التي ظهرت طوال العقود الثلاثة السابقة منذ صدور دستور 1923، والتي كان أبرزها التعدي على الدستور وتزوير الانتخابات.. فقد كرسوا كل ذلك وأضافوا إليه من كل سوء أسوأه.

وكانت أول خطوة في الطريق -ولعل كثيرون لم ينتبهوا إليها- قد بدأت بعد عزل الملك فاروق (ت: 1965م) مباشرة، وتنازله عن العرش لابنه الرضيع، وكانت تلك خطوة دستورية معتبرة.. ووفقا لما يقضى به الدستور كان لا بد أن يدعو البرلمان لإقرار تعيين “مجلس الوصاية على العرش” وأداء الأوصياء لليمين القانونية في اجتماع مشترك لغرفتي البرلمان.. وكان حزب الوفد وقتها يحظى بالأغلبية في البرلمان المعطل منذ شهور بعد حريق القاهرة.

لكن خصوم الوفد من “السياسيين الكبار” العظام اقترحوا على مجلس قيادة الثورة “خرق الدستور” وعدم دعوة البرلمان للانعقاد..

* * *

وكان هذا هو “عود الثقاب” الذي أشعل الحريق الكبير في “السياسة”، وما يتصل بها من الحاقات من أحزاب وزعامات وبرلمان وصحافة حرة ورأى عام قوي.. الخ. وهو الحريق الذي سيأتي على أخضر السياسة ويابسها وأفرعها وأغصانها وجذوعها وجذورها وكل ما يتصل، بها ولن يُبقي فقط إلا على هياكل من رمادها المتراكم بعضه فوق بعض..

وسيكتب التاريخ أن هذا “الخرق المتعمد” للدستور فتح شهية الضباط الشبان إلى كل الخروقات التي جاءت بعدها، وسيحمل هؤلاء الساسة الكبار وزر هذا الإثم الكبير الذي سيثقل على أكتافهم وأكتاف من بعدهم أثقالا فوق أثقال.. ليس هذا فقط، بل وكل ما ترتب عليه من كل ألوان الهلاك التي عاشها المصريون طويلا طويلا..

* * *

الساسة القدامى الكبار الذين كانوا يجلسون في “غرفة العتائق” على وصف الروائي الفرنسي بلزاك (ت: 1850م) هم من فتح هذه الشهية الشرهة الشرسة للضباط الشبان.. ليشبعوا شهوة الثأر والانتقام والغل والتنكيل بعضهم ببعض، وهي الشهوة التي أعمت أبصارهم عن تلمس حركة التاريخ والنظر بعيدا للكارثة التي قد تترتب على هذا الخرق المقصود للدستور، والتجاوز فيما بينهم عن خصومات وعداوات سابقة تبدو ضئيلة للغاية أمام هذه الأحداث الكبرى التي تجري أمام أعينهم ومن تحت أقدامهم.. وهو ما جعل الضباط يهزؤون بهم بعدها استهزاء مهينا، لا يلبثوا بعده أن يهزؤوا بالشعب والأمة كلها في ملهاة لا نظير لها في العصر الحديث.

سنرى مكرم عبيد (ت: 1961م) المستقيل من الوفد وصاحب الثأرات الانتقامية من زعيم الأمة مصطفي النحاس (ت: 1965م) يهرع إلى مجلس الوزراء ليلتقي رئيس الوزراء علي ماهر (ت: 1960م) ونائب رئيس مجلس الدولة سليمان حافظ (1968م) ، مطالبا بعدم دعوة البرلمان للاجتماع ليقر تشكيل مجلس “الوصاية على العرش”!

سنرى عددا من القانونيين الكبار في الترويج لما يسمى بـ”الفقه الثوري” و”الشرعية الثورية” مبررين بهما عدم دعوة البرلمان (المنتخب انتخابا حرا ديمقراطيا!!)، وكان من هؤلاء بكل أسف د. عبد الرازق السنهوري (ت: 19971م)، رئيس مجلس الدولة، والذي سيدفع بعدها الثمن غاليا من كرامته الشخصية، بالضرب وشج رأسه في مكتبه من الغوغاء والبلطجية بتخطيط مباشر من “الضباط”.. وكان العلامة الكبير أيضا من الخصوم السياسيين للوفد.. فانعقدت الجمعية العمومية لقسم الرأي بمجلس الدولة، وأصدرت فتوى بحق الحكومة في إدارة البلاد دون برلمان لأي مدة !!.. وبالطبع كان على ماهر، رئيس الحكومة وقتها والعدو التاريخي للوفد، داعما لهذا الاتجاه الذي أقره مجلس قيادة الثورة بالأغلبية.

* * *

ستتوالى الخطوات على طريق دولة الاستبداد والخوف والخضوع المهين.. بداية من الدعوة في نهاية تموز/ يوليو 1952م لتطهير الأحزاب، وصولا إلى حلها، بحجة أنها لم تطهر نفسها كما يجب!!

ثم كان النذير الأعظم الذي أعرض عن التنبه له الجميع بـ”فض اعتصام” عمال كفر الدوار بالقوة المفرطة ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية وإعدام عاملين من قادتهما (خميس والبقري) في آب/ أغسطس، القائظ بحرارة صيف لافح لكل ربيع كان وسيكون بعدها.

وفي أيلول/ سبتمبر من نفس السنة، ستبدأ حملة اعتقالات واسعة لعدد من الساسة القدامى، وفي نفس الشهر ستبدأ أسوأ إجراءات فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي المعتاد فيما عرف باسم “التطهير”. وفي كانون الأول/ ديسمبر سيعلن الرئيس محمد نجيب (ت: 1983م) سقوط دستور 1923م، الذي جاهد المصريون طوال خمس سنوات (من 1930 م الى 1935م) من أجل عودته. وفي كانون الثاني/ يناير 1953م صدر مرسوم بتأليف لجنة من خمسين عضوا لوضع دستور جديد.. لن يُكتب ولن يصدر.

* * *

ما حدث في الحقيقة لم يكن إلا تصفية “الحياة السياسية” بأسرها.. ليجلس بعدها كبار السياسيين والزعماء في بيوتهم أو سجونهم يستمتعون بالمذاق الحلو الشهي للثأر والانتقام بعضهم من بعض.. بعد أن أسلموا بلادهم وقبلها رقابهم.. إلى من لا يشفق ولا يرحم ولا يرعوي

في حزيران/ يونيو من نفس العام، سيتم إعلان الجمهورية وإعلان مرحلة انتقالية تمتد لثلاث سنوات، كما سيشهد الشهر نفسه تولي “مجلس قيادة الثورة” بنفسه محاكمة ضابطين من ضباط الجيش بتهمة إثارة الفتنة في القوات المسلحة والحكم على أحدهما بالمؤبد وفصل الثاني من الخدمة، وسيتكرر المشهد ثانية في آذار/ مارس ولكن بشهية وجرأة أكثر ومع القائمقام (عقيد) رشاد مهنا (ت: 1996م)، وهو وصي على العرش، والذي وصفه الرئيس نجيب بالأب الروحي لثورة يوليو 1952م، وحكم عليه بالمؤبد.. وكان رئيس محكمة الثورة وقتها البكباشي جمال عبد الناصر.

* * *

سنقرأ بعدها في مذكرات عبد اللطيف البغدادي (ت: 1999م)، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، عن لقاء بين بعض أعضاء المجلس في مكتب عبد الناصر، أعربوا فيه عن قلقهم على أنفسهم ومستقبلهم.. ولكن عبد الناصر حاول تهدئتهم قائلا: “لا تتسرعوا وكل ما أطلبه منكم أن تعطوني حق حرية التصرف دون الرجوع إليكم، حتى لا يضيع الوقت في المناقشات، لأن الظروف تتطلب سرعة البت.. وعليّ أنا أن أقف على كل التيارات السياسية المختلفة في البلاد وأنا مسئول عن تطهير البلاد من العناصر الرجعية والقضاء عليها..”. وبالفعل سارت الأحداث في الاتجاه الأسوأ.. اتجاه منح عبد الناصر “حق حرية التصرف”!! ليضاف خطأ أكبر إلى أشقائه الأشقياء من “كبائر” الأخطاء.

وتتم تصفية التيارات السياسية المختلفة كلهم أجمعين.. وما حدث في الحقيقة لم يكن إلا تصفية “الحياة السياسية” بأسرها.. ليجلس بعدها كبار السياسيين والزعماء في بيوتهم أو سجونهم يستمتعون بالمذاق الحلو الشهي للثأر والانتقام بعضهم من بعض.. بعد أن أسلموا بلادهم وقبلها رقابهم.. إلى من لا يشفق ولا يرحم ولا يرعوي.. ولم يسمعوا وقتها لمن قال لهم قبل ضحى الغد:

هو الفناء الذي يجتث أصلكم فمن   رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى