وراء الحدود

إدوارد سعيد.. كتب ذاته وكتبنا

هشام الحمامي

لا أدري ما الذي يفترض أن يكون عليه واقع الفكر الإسلامي وهو يدخل التاريخ من بوابة القرن الـ21 بدون عزت بيجوفيتش (ت: 2003م) وعبد الوهاب المسيري (ت: 2008م) وإدوارد سعيد (ت: 2003م).. أوروبي وعربي ومسيحي.. قدموا زادا ضخما عميقا لحضارة الإسلام الممتدة إن شاء الله إلى يوم الدين بالكثير والأكثر من كل ما هو ضروري وهام وعاجل. والمدهش والمثير أنهم شقوا مسارات منفصلة، فلم يكونوا على نقطة ابتداء واحدة، ولا انطلقوا حتى من مكان واحد، والأكثر دهشة أنهم لم يمروا على المحطات التقليدية لسكة الإصلاح والنهضة الإسلامية. طبعا إدوارد سعيد ما كان ولم يكن تُنتظر رؤيته على تلك المحطات..

سيكون مهمّا هنا أن نشير إلى أن الثلاثة تدفقت ينابيع وأنوار أفكارهم من خلال تفكيك وتحليل ونقد الحضارة الغربية وأفكارها وفلسفتها وثوابتها التي أسست عليها رؤيتها لذاتها وللعالم الآخر من حولها. وغني عن التعريف ما هي هذه الرؤية بالغة التعالي والمركزية، التي تنظر للآخر على أنه نسخة رديئة من “النوع الإنساني”، وعليه أن يخضع لمن ابتعثتهم الأقدار ليجعلوا منه نسخة مقبولة للعيش على كوكب الأرض.

الأحد الماضي (25 أيلول/ سبتمبر) تكون قد مرت 19 عاما على نهاية الدرب العتيد الذي عاشه إدوارد سعيد (68 عاما)، ومرت الذكرى للأسف دون ذكر يذكر لصاحب “المطرقة الصلبة” التي هوت على رأس “مدرسة الاستشراق” الغربي فدكتها دكا، وجعلتها أضحوكة هزليه بعد أن عراها تماما ونزع عنها بكلتا يديه أثواب الوقار الأكاديمي والبحث العلمي والنظر الجاد، وكل هذه الأوصاف الظريفة التي وصفوا بها الاستشراق؛ الذي لم يكن يزيد عن كونه مجرد طليعة استطلاعية لتمهيد وتعبيد الطريق أمام السياسي والعسكري الأوروبي لغزو الشرق واحتلاله والسيطرة عليه والهيمنة على أهلة وثرواته، واستنزاف خيراته لفائدة ومنافع الرجل الأبيض صاحب العبء الثقيل في نشر الحضارة على سطح البسيطة، مبتعثا نفسه بنفسه للقيام بهذه المهمة التي لم يطلبها منه طالب ولا راغب..

رت الذكرى للأسف دون ذكر يذكر لصاحب “المطرقة الصلبة” التي هوت على رأس “مدرسة الاستشراق” الغربي فدكتها دكا، وجعلتها أضحوكة هزليه بعد أن عراها تماما ونزع عنها بكلتا يديه أثواب الوقار الأكاديمي والبحث العلمي والنظر الجاد، وكل هذه الأوصاف الظريفة التي وصفوا بها الاستشراق

وليته (الرجل الأبيض) فعل مثل ما فعل الفاتحون المسلمون معربا عن أهدافه الواضحة كما فعلوا، مثلا إعلانهم عن التحرير من احتلال الفرس والروم، والتعريف بدين التوحيد الجديد وآخر كتاب سماوي للبشر، وإقامة أعمدة جديدة لحياة الإنسان على الأرض.. ولكنه لم يفعل لأنه لم يكن يريد، هو فقط أراد الاحتلال والاستعباد والاستنزاف للبشر والشجر والحجر وكل ما فوق التراب وما تحت التراب، فلم ير منه الشرق إلا ألسنة النيران المندلعة في ربوع الديار كلها. وتذكر كتب التاريخ أن أحد الشيوخ الجزائريين سأل عما تريده القوات الفرنسية الغازية للجزائر، قالوا له إنهم يريدون نشر الحضارة والأنوار في ربوع الجزائر، فقال لهم: ولمَ أحضروا كل هذا البارود إذن..؟!

الشرق كله كما قال د. المسيري كان مثل هذا الشيخ الجزائري: شممنا رائحة البارود وشاهدنا ألسنة اللهب ورأينا سنابك الخيل تدوس كل شيء، بل ورأينا البارود وهو تتحسن خبرته ومقدرته ليصبح قنابل وصواريخ نووية وكيميائية.

المشرق ليس المشرق كما هو، بل المشرق كما هو مستشرق.. هكذا قال سعيد.. بدراسة الشرق سيكون الغرب قد هيمن عليه وتلاعب به سياسيا واجتماعيا وعسكريا وأيديولوجيا وعلميا وخياليا.. ليس هذا فقط، بل وأشار الرجل إلى أن مؤامرة الهيمنة هذه كانت منذ عصر التنوير في القرن السابع عشر ومستمرة حتى يومنا هذا..

* * *

الرائع فيما أحدثه إدوارد سعيد تجاه بلاده وقضية بلاده (فلسطين) وتجاهنا أيضا؛ أنه أعادها إلى مكانها الحقيقي؛ أرضية الصراع العنيد العتيد بين الشرق الذي هو شرق والغرب الذي هو غرب.. ولن يلتقيا! كما قال الشاعر الإنجليزي كيبلينج (ت: 1936) شاعر الإمبراطورية الاستعماري. وبالتالي فحين تتحدث عن مفاوضات و”عملية” سلام مفتوحة إلى ما لا نهاية له من الوقت فأنت تعبث بالحقائق وتحرث في الماء، وهو ما دفع مفكرنا الكبير إلى اتخاذ موقفه الحاسم من منظمة التحرير الفلسطينية، واضطر نزولا على واجبه الوطني والعلمي أيضا أن يقول كل ما قاله في كتابه الشهير “غزة-أريحا.. سلام أمريكي” الصادر في العام 1995م: “لقد نجحت إسرائيل على ما يبدو -وإلى حين- في إقناع العرب بوجه عام والقيادة الفلسطينية المنهكة بشكل خاص؛ بأن المساواة مع إسرائيل أمر غير وارد على الإطلاق، وبأنه لا سلام إلا بالشروط التي تمليها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية”..

الرائع فيما أحدثه إدوارد سعيد تجاه بلاده وقضية بلاده (فلسطين) وتجاهنا أيضا؛ أنه أعادها إلى مكانها الحقيقي؛ أرضية الصراع العنيد العتيد بين الشرق الذي هو شرق والغرب الذي هو غرب

ويكمل: “وقد ساعدت حالة التردي العربية الشاملة على ترويج هذه الأكذوبة حينما امتصت سنوات الحروب الفاشلة والشعارات الفارغة والجماهير غير المعبأة وانعدام الكفاءة وانتشار الفساد.. امتصت حيوية مجتمعاتنا، وهي المجتمعات المعوقة أصلا بسبب غياب الديموقراطية والمشاركة والأمل الذي تخلقه هذه المشاركة في نفوس الجماهير”.

وشن سعيد انتقادات واسعة عبر كل وسائله المتاحة، وهو النجم اللامع الذي استطاع أن يفك شفرة الإعلام الأمريكي بل والغربي كله، فهاجم أوسلو وهاجم الزعيم الراحل ياسر عرفات، واتهمه بـ”التفريط” في حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضي الـ48 وأنه تجاهل عامدا تنامي الاستيطان..

بل واتهمه مباشرة بأنه سبب الفساد والأوضاع المزرية سياسياً واقتصادياً وإدارياً داخل المنظمة، وردت عليه السلطة الفلسطينية بطريقة الأنظمة العربية العريقة، إذ مُنعت بيع كتب إدوارد سعيد في أراضيها. وهو الذي كان قد استقال من المجلس الوطني الفلسطيني قبلها احتجاجا منه على توقيع اتفاقية أوسلو..

وقال: “على الرغم من أني أعطيت صوتي في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر عام 1988م لصالح حل القضية على أساس وجود دولتين، إلا أنني أخذت أرى بوضوح ومنذ العام 1991م الأسلوب الذي يتم به إهدار المكاسب التي حققتها الانتفاضة، بل وإصرار ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على قبول أي شيء تلقي به الولايات المتحدة وإسرائيل في طريقهم..!!”. وهو ما حدث فعلا ولا زال يحدث على طاولة محمود عباس، وإن كان بطريقة أكثر ابتذالا ورخصا.

ومن المهم هنا أيضا أن نُذكر بأن ما فعله سعيد وحده في هذا المجال بإعادة الصراع على فلسطين إلى عنوانه التاريخي الصحيح بأنه صراع الشرق والغرب، مقابل ما كان هنري كيسنجر (99 سنة) يقوم به من مجهود دولة كامله بحجم الولايات المتحدة الأمريكية ومن بعد حرب أكتوبر 1973م، واستمر فيه وسلمه لمن بعده بكل أروقه الخارجية الأمريكية وكل حجرات البيت الأبيض، وهو أن الصراع مجرد صراع “فلسطيني/ إسرائيلي”.. وليس حتى صراعا عربيا إسرائيليا.. ويُذكر للأستاذ هيكل (ت: 2016) أنه أشار ونبه إلى حقيقة الدور والدافع الذي كان يتحرك به كيسنجر، في كتابه المعروف “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”.

* * *

النجاح المذهل للكتاب العمدة لإدوارد سعيد، “الاستشراق”، أثار حفيظة الكثيرين من المعروفين في مجال الدراسات الشرقية، بل وسبب لهم خزيا مفضوحا دفعهم للهجوم عليه بكل ما يملكونه من شراسة إعلامية وأكاديمية.. أوليفييه روا (73سنة)، وهو أشهر من أن يعرف في دوائر الثقافة العربية والإسلامية، قال معترفا: استقرت بالفعل عقيدة إدوارد سعيد في محراب الجامعة بالعالم الأنجلوسكسوني، وامتلكت مدرسته الفكرية مواقع وسلطة وقدرة تأثيرية في الدراسات الشرق أوسطية والدراسات الثقافية والمابعد كولونيالية.. وتولى سعيد وتلاميذه السلطة في الأوساط الأكاديمية”، كما ذكر الأستاذ مصطفى شلش، الباحث المصري المعروف في مركز الدراسات العربية الأورو-آسيوية.

النجاح المذهل للكتاب العمدة لإدوارد سعيد، “الاستشراق”، أثار حفيظة الكثيرين من المعروفين في مجال الدراسات الشرقية، بل وسبب لهم خزيا مفضوحا دفعهم للهجوم عليه بكل ما يملكونه من شراسة إعلامية وأكاديمية

لكن أوليفيه يغمز ويلمز (من تحت لتحت) فيقول: إن الرسالة السياسية التي تحملها كتب سعيد هي ما منحته القوة، وليس من الصدفة بشيء ربطه بشكل فوري ومباشر بالقضية الفلسطينية، في حين أن إمكانية الدفاع عن هذه القضية متاحة جداً خارج أي إشارة إلى الاستشراق، فقُرئت كتب سعيد كدفاع عن القضية الفلسطينية وتظهير لها، مما يعطل النقاش الفكري البحت حول صحة طروحاته..”. أخطأ عامدا عمنا أوليفيه، فلم يتعطل النقاش الفكري حول الاستشراق كما كشفه سعيد وعرّاه. الكتاب ترجم إلى عشرين لغة كما نعرف، وأزاح وطوّح تماما بكل ما قيل ويقال من داخل المكتبة الصلبة الزائفة التي رسخها الغرب عن الشرق لنفسه ولنا!

إدوارد سعيد ليس مختصاً بدراسات الشرق الأوسط ولا بمشاكل الفكر العربي أو الإسلامي، وإنما هو أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وهو أستاذ لامع في اختصاصه، ولكن ما علاقته بموضوع الاستشراق؟ هكذا تساءل بـبراءة بليدة الصهيوني العتيد مارتن كريمر (68 سنة)، الأكاديمي الأمريكي المعروف وصاحب الكتاب الشهير “أبراج عاجية على الرمال”.. وهو بالمناسبة تلميذ برنارد لويس (ت: 2018) الذي هشّم إدوارد سعيد رأسه في المناظرة الشهيرة التي جرت بينهما في بوسطن في تشرين الثاني/ نوفمبر 1986م.

سيذكر التاريخ لإدوارد سعيد أنه كان أكبر فاتح لدراسات “الإسلام.. دينا وحضارة” أمام البوابات الأكاديمية والإعلامية الغربية، الصماء الصلدة، التي توارثت العداء والخصومة والتباعد والكراهية لكل ما هو شرقي.. وكل ما هو إسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى