د. النفيسي.. ما له وما علينا
للدكتور عبد الله النفيسي (77 عاما)، المفكر المعروف، أن يقول ما يشاء له القول في الفكر الاستراتيجي وأدبيات الحركات الإسلامية، وعلينا نحن أن ننتبه لما يقول. ثمة أخطاء قد يقع فيها الإنسان ذو المكانة المكينة والشهرة الشهيرة؛ قد تجعلك تقف فجأة وتضع يدك على أم رأسك وتقول كما كان يقول عمنا بيدبا في كليلة ودمنة: كيف كان ذلك..؟ وكلنا يتذكر ما قاله الأستاذ هيكل (ت: 2016م) تعليقا على هجمات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول/ سبتمبر؛ من احتمال أن يكون المسؤول هم الجنرالات الروس السابقون ثأرا لإمبراطوريتهم التي زالت بفعل الحرب الباردة وسباق التسلح والمخابرات المركزية الأمريكية!!
وقتها تساءل الناس عن معلومات الأستاذ هيكل وعلاقات الأستاذ هيكل واستنتاجات الأستاذ هيكل.. ولأن الأستاذ هيكل رجل محظوظ للغاية كما كان يصف نفسه، فلم يقف أحد كثيرا عند هكذا تفسير ويحاسب قائله الذي كان يتميز مهنيا بتدفق المعلومات من بين سطور كتاباته أنهارا تجري من كل المنابع إلى كل المصبات.
ولكن ما هو الخطأ الذي وقع فيه د. عبد الله النفيسي..؟
في حواره الأخير بقناة الجزيرة تحدث الرجل كثيرا عن الحركات الإسلامية وتجاربها التاريخية وعلاقاتها بباقي الأطراف من حولها القريبة منها والبعيدة، وعاب عليها فيما عاب سوء علاقاتها بــ”دول المركز”، وهو يقصد الغرب وحضارته وعواصمه الكبرى التي يتمركز فيها الفكر والسياسة.. هكذا يرى الغرب نفسه، وهكذا يراه د. النفيسي! لكننا لا نراه كذلك، وهو ليس كذلك بالفعل.
في حواره الأخير بقناة الجزيرة تحدث الرجل كثيرا عن الحركات الإسلامية وتجاربها التاريخية وعلاقاتها بباقي الأطراف من حولها القريبة منها والبعيدة، وعاب عليها فيما عاب سوء علاقاتها بــ”دول المركز”، وهو يقصد الغرب وحضارته وعواصمه الكبرى التي يتمركز فيها الفكر والسياسة
وليس أدل من قول مفكر بحجم د. عبد الوهاب المسيري (ت: 2008م) عن ذلك: “الغرب دعم دعوى المركزية لنفسه بمجموعة من النظريات الخاصة بعالم الأخلاق والهوية والحضارة تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، وتؤكد تفوقه وهذه النظريات هي ما يطلق عليها النظرية العنصرية..”.
فكيف لمفكر إسلامي لديه مرجعياته وجذوره وأصوله يسلم هكذا للغرب بمركزيته التي يدعيها؟ وأتصور أن كثيرين من المفكرين العرب عاشوا وماتوا، ولا زال منهم من يعيش ويفكر وهم أسير وضحية هذا الوهم الذي فككه د. المسيري تفكيكا، والذي نجح من خلال الإعلام في أن ينشر أفكاره تلك على نطاقات واسعة، مستفيدا من خطأ المفكر الكبير الراحل مالك بن نبي (ت: 1073م) الذي كان من أوائل المفكرين الإسلاميين الذين سلخوا الغرب من تلك المركزية المتعالية، لكن أفكاره لم يتح لها المعرفة الواسعة بنفس القدر الذي أتيح للدكتور المسيري.. وطبعا د. إدوارد سعيد (ت: 2003م) صاحب “الاستشراق”، وبالطبع أستاذ الأساتذة في النجومية الإعلامية والتي وظفها لأمته وأفكاره على أحسن مثال يكون.. ولا عيب في أن يصحب ذلك نجومية شخصية تأتي بعد ذلك في المرتبة الثالثة أو الرابعة، لكنها أبدا ليست الأولى.
أقول ذلك وقد توقفت كثيرا -وما كان لي غير ذلك- حين تحدث د. النفيسي عن لقاء الأستاذ حسن الهضيبي (ت: 1973م) بالزعيم الخالد في منزل المستشار صالح أبو رقيق (ت: 1999م).. وعاب فيه على الأستاذ الهضيبي الحديث مع الزعيم الخالد عن الحجاب والخمور، واصفا الثاني بأنه كان رجلا صاحب رؤية استراتيجية تتصل بالتاريخ والشعب والاستعمار وقناة السويس والسودان وإسرائيل، وهي المجالات كلها التي فشل فيها الزعيم الخالد فشلا يدرس لتلاميذ المراحل الابتدائية!
ولا زالت الأمة تسدد في أثمان هذا الفشل من نخاع وجودها وبقائها واستمرارها كأمة بين الأمم، ولم تكن أبدا مهددة بما هي مهددة به جراء تلك الأثمان الباهظة. فالرجل لم تكن له أي رؤية على الإطلاق، ويكفي ما ذكره في مقال له في مجلة فورين أفيرز سنة 1955م عن أن الهدف النهائى للثورة هو إقامة حكومة ديمقراطية ونيابية بحق!! أترك للقارئ وللتاريخ وللأمة التعقيب على تلك الجملة فقط من صاحب الرؤية التي تم اختزالها في رؤوس ثلاثة أوكل إليهم مهماته الوطنية الكبرى (شعرواي جمعة وعلي صبري وسامي شرف) في سنواته النهائية كما قال الأستاذ سامى في مذكراته الهامة “سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر”، أيضا الروائي الكبير فتحي غانم في كتابه “معركة بين المثقفين والدولة”، والذي أورد فيه حوارا بينه وبين الراحل علي صبري يشي بهول الكارثة التي كانت تعيشها البلاد حينئذ، إذ اشتكى له من أحد المقربين من النظام وأفعاله الأخلاقية الرذيلة، فقال له على صبري “انت مش عارف البلد بتتحكم إزاي؟”.
عاب على الأستاذ الهضيبي الحديث مع الزعيم الخالد عن الحجاب والخمور، واصفا الثاني بأنه كان رجلا صاحب رؤية استراتيجية تتصل بالتاريخ والشعب والاستعمار وقناة السويس والسودان وإسرائيل، وهي المجالات كلها التي فشل فيها الزعيم الخالد فشلا يدرس لتلاميذ المراحل الابتدائية!
أسوأ من كل ذلك حكاه أغلب أعضاء تنظيم الضباط الأحرار في مذكراتهم؛ التي يبدو أن الدكتور النفيسي لم يقرأها كلها..
الحوار الذي تحدث عنه الدكتور النفيسي دار في منزل المستشار صالح أبو رقيق الكائن بـ32 ش الخليفة المأمون/ منشية البكري، وكان مجاورا لمنزل الزعيم الخالد، وقد حكى لي عنه المستشار صالح رحمه الله.. وقد كان لي كطبيب شرف الصحبة والتلقي والاقتراب من هذا الرجل العظيم الذي كان شاهدا على عقد زواجي، وامتدت تلك الصحبة الكريمة إلى ولديه الدكتورة عائشة أبو رقيق، الأستاذ الجامعية بجامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية، والمهندس أحمد أبو رقيق المقيم بالولايات المتحدة.
ودارت بيننا حوارات طويلة وتاريخية بها قدر كبير من الأهمية، عن أهم مراحل وفترات التاريخ المعاصر لأم الدنيا، وكان الرجل في الحقيقة صاحب عقل سياسي فذ ورؤية استراتيجية عميقة، متمتعا في ذلك كله بحس إنساني دقيق وراق، ولعل الأيام تتيح فرصة الكتابة عنه وعن دوره السياسي والفكري الكبير في تاريخ بلده وأمته. وقد حكى لي الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الوزراء المغربي السابق، أن وجود المستشار صالح في المغرب لفترات طويلة أثناء زياراته لابنته “أنقذنا من مهالك فكرية وسياسية كبيرة كدنا أن نقع فيها، وسقانا من تجربته السياسية شهدا صافيا”.. على أن الرجل لم تتح له هذه الفرصة في بلاده بنفس القدر للأسف الشديد!
وأولوا الفضل في أوطانهم غرباء تشذ وتنأى عنهم القرباء
الحاصل أن هذا اللقاء الذي أشار إليه د. النفيسي وقد حدث فعلا، كما حكى لي الأستاذ صالح وأشار إلى الكرسيين اللذين كان يجلس عليهما الاثنان (الأستاذ الهضيبي والزعيم الخالد).
لكن ما رواه د. النفيسي عن ما دار في اللقاء بينهم لم يحدث!.. وحسنا فعلا الأستاذ الدكتور بشير نافع المفكر والمؤرخ الكبير حين سارع إلى كتابه رأيه فيما قاله د. النفيسي كله.
لكني أستطيع من واقع صحبتي الطويلة وقربي من الأستاذ صالح أن أنفى تماما تلك الفقرة الفقيرة جدا إلى الموثوقية في كلام الدكتور النفيسي.
وأصلا لم يكن الحجاب في أي وقت من الأوقات على أولوية الاهتمامات الإصلاحية الكبرى للحركة الإسلامية في الأربعينيات، تلك الفترة الأزهى والأبهى والأروع في تاريخها كله وإلى الآن.. لم يتحول الحجاب والنقاب إلى ظاهرة وتقليدا إصلاحيا إلا في السبعينيات، وكلنا نعرف خصوصية تلك الفترة التي التبست وتداخلت فيها الأحداث والأفكار والتنظيمات والعلاقات إلى الحدود القصوى من الارتباك والدهشة والاضطراب.
لكن ماذا حدث في هذا اللقاء وماذا دار فيه؟
القصة بسيطة للغاية وقد لخصتها الجملة الأخيرة.. كون الأستاذ الهضيبي لا يعرف في أصول السياسة ما ينبغي ويعتبر، وقد ثبت ذلك بالفعل في كثير من الملفات التي عالجها.. فهذا لا يعيبه.. وقد كان شبيها في كثير من مواقفه بالإمام علي رضى الله عنه، ولذلك حديث آخر
كل ما دار فيه كان كلاما يدور حول أهمية التفاهم والتعاون الخلاق بين المؤسسة التي أقدمت على هذا التغيير الكبير (الجيش) في السلطة.. وبين التيارات الاجتماعية والسياسية والإصلاحية المشهود لها بالعمل لخير البلاد، خشية من أن يتطرق إليها الخارج بما يفسد ويعكر هذا التعاون الضروري للانتقال بالبلاد إلى تاريخ جديد وعصر جديد.
وحكى الأستاذ صالح عن ما دار بينه وبين الزعيم الخالد وهو يرافقه إلى بيته من “المرارة” التي كان يعاني منها الزعيم الخالد جراء تلك الطريقة التي كان يعامله بها الأستاذ الهضيبي، وقال له في ضيق: “هو أنا باشتغل عند أبوه..؟”.. وهذه الجملة تختصر كثيرا مما حدث بعد ذلك في العلاقة بين الاثنين.. فالقصة ليست رؤية موجودة أو معدومة!.. القصة بسيطة للغاية وقد لخصتها الجملة الأخيرة.. كون الأستاذ الهضيبي لا يعرف في أصول السياسة ما ينبغي ويعتبر، وقد ثبت ذلك بالفعل في كثير من الملفات التي عالجها.. فهذا لا يعيبه.. وقد كان شبيها في كثير من مواقفه بالإمام علي رضى الله عنه، ولذلك حديث آخر.
لن أتمكن من متابعة ما يقوله الدكتور عبد الله النفيسي في حديثه المتصل عن الحركات الإصلاحية.. لكني أتوجه إلى هذا الجيل العظيم بأن يعتبر نفسه في فترة التأمل الصامت الجميل وأنه قدم ما يكفي في بناء تصورات الفكر والممارسة خلال العقود الماضية، وعليه أن يغادر في هدوء واحترام وإجلال للتجربة كلها.. ما سبق فيها وبها ومن سيلحق بها ولها.