“سبعينية يوليو” الجهل السعيد.. الوهم السعيد
معظم الثورات تنتهى عموما بالعودة إلى حيث بدأت، وتنشأ بعض الأفكار الجديدة ويتحول هيكل القوة قليلا.. وتطبق بعض الإصلاحات، ويمحى أسوأ ما في النظام القديم، غير أن الوضع القائم يصبح مشابها للوضع في فترة ما قبل الثورة، وتشرع الطبقة الحاكمة مرة أخرى بالإمساك بالقوة.. هذا ما قاله د. كرين برينتن (ت 1968)، الأستاذ في هارفارد وصاحب الكتاب الأشهر “تشريح الثورة”، وترجمه عام 2009م ا. سمير الجلبي.
هذه الكلمات دالة بشكل أو بآخر على ما حدث صبيحة يوم 23 تموز/ يوليو 1952م، وامتد بعدها في خط متصل لم ينقطع ولم ينفصل عبر كل المحطات التاريخية الكبيرة والصغيرة التي تتالت وتوالت على الوطن وشعب هذا الوطن..
يقولون إن الحدث ليس هو ما نراه أو ما نعرفه.. بل هو ما “يصير إليه” وما “ينتج عنه” من أحداث.. وهذا كلام منطقي ومن إدراكات الفلسفة البسيطة، أيضا عادل ومحايد، فما هي الطريقة التي أحكم بها على أفعالك إن لم تكن نتيجة هذه الأفعال وما صارت إليه في الدنيا وبين الناس؟.. تحدث بما شئت كيف شئت.. وكل كلام وله كلام على رأي عمنا بيدبا في كليلة ودمنة.. لكن هناك واقعا ينطق بما يحمله على ظهره من وقائع.
هذه الكلمات دالة بشكل أو بآخر على ما حدث صبيحة يوم 23 تموز/ يوليو 1952م، وامتد بعدها في خط متصل لم ينقطع ولم ينفصل عبر كل المحطات التاريخية الكبيرة والصغيرة التي تتالت وتوالت على الوطن وشعب هذا الوطن
فإذا تحدثنا عن أهداف حركة الضباط التي قدموها لجموع المصريين في صبيحة هذا اليوم: القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة.. سنجد ما جرى من كل ما ذلك أحداثا حزينة أسيفة كلمى تنطق بالحسرات والخيبات..
وإذا تحدثنا عن “العزة والكرامة” التي هتف بها الزعيم الخالد في وجه المصريين وجعلت كاتبا كبيرا بحجم الأستاذ عباس العقاد (ت 1964م) في حالة دهشة وذهول من جرأة الرجل فيما قال ومن صمت المصريين فيما سمعوا.. كما حكى لنا الأستاذ انيس منصور (ت 2011م) في كتابه الشهير “عبد الناصر المٌفتَرى عليه.. والمفترِي علينا”.
وإذا تحدثنا عن قوام الوطن وعماد الأمة: “الإنسان، سنجد أن الأمر سيئ جدا.. بل جدا جدا! صحة وتعليما وسعادة ومستقبلا.. سنتذكر وعي الكاتب الكبير توفيق الحكيم (ت 1987م) الذي عاد وقال في كتابه الزلزال الذي حمل نفس العنوان (عودة الوعي) يصف ما مر بالوطن ومؤسساته بل وحدوده؛ من تضييع وإهدار ما مر به الإنسان من تدهور وانهيار خلال تلك الفترة.. وسنتذكر رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ (ت 2006م) والتي تحولت الى فيلم سينمائي أشهر من الرواية!..
* * *
وهكذا.. كل ما ستلمسه يداك وتصافحه عيناك فيما “صار” وما “نتج” لن تجد إلا “وهما سعيدا”.. ولن تجد إلا “جهلا سعيدا”.. إذ يصعب على الناس تصديق ما حدث في بلادهم.. بل وبهم وبينهم وعليهم ومنهم ولهم.. بعد تلك الثلاثين المجيدة (1919- 1950) التي عاشها بعضهم وحكى عنها بعضهم.. وقرأ عنها بعضهم..
ولم تكن في الحقيقة فخرا للمصريين فقط، بل وفخرا وسندا لكل العرب، إذ كان كل ذلك بمثابة “القاطرة الكبرى” لكل ما قامت عليه الدولة العربية الحديثة في هذه المجالات تحديدا: التعليم والفكر والفن.. تفسد السياسة والسلطة ما تفسده أو تصلح ما تصلحه، لكن واقع الحال في التاريخ الحديث سيتذكر المعلم المصري والطبيب المصري والمفكر المصرى الذي كان غرسة وإثماره في ذلك الزمن الخصيب..
هذا “الجهل السعيد” حاول الرئيس أنور السادات (ت 1981م) أن يزيله بلجنه تاريخية توثيقية.. تبحث وتقرأ وتسمع وتسأل وتكتب “تاريخ مصر”.. حدث ذلك في كانون الثاني/ يناير 1976 م وكلف نائب رئيس الجمهورية وقتها حسني مبارك (ت 2020م) برئاستها، والذي ما لبث أن انسحب منها في هدوء وطلب من الدكتور صبحى عبد الحكيم أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة (رئيس مجلس الشورى بين عامي 1980 و1986- ت 2009م) رئاستها بدلا منه.. ثم انتهى الموضوع وكأنه ما كان.. في سابقة لم تعرفها أمة من قبل ولا من بعد.
تفسد السياسة والسلطة ما تفسده أو تصلح ما تصلحه، لكن واقع الحال في التاريخ الحديث سيتذكر المعلم المصري والطبيب المصري والمفكر المصرى الذي كان غرسة وإثماره في ذلك الزمن الخصيب
أحد أعضاء اللجنة (اللواء الطيار فكري الجندي، دفعة 1960 طيران) قال إن كل الوثائق التي حصلت عليها اللجنة تم إخفائها بالكامل.. خاصة تلك التي تتناول “حقائق عهد ما قبل حركة الضباط الأحرار 1952″، وصولا إلى حرب 1973.. ناهيك طبعا عن أم الكوارث (يونيو 1967م).. التي يسميها المؤرخ الكبير د. خالد فهمي (58 عاما) “الهزيمة المستمرة”.. وهو المؤرخ الأكاديمي الذي بُح صوته في كل مكان وعبر كل الوسائط، لكي يتاح له ولغيره من المؤرخين الاطلاع على كل الوثائق والتقارير التي تناولت تلك الفترة من بعد نهاية الملكية وحتى نهاية حكم الرئيس السادات.
* * *
لكن الحديث هنا لا يكتمل في الحقيقة إلا اذا أخذنا طرفا واحدا من أطراف خيوطه العديدة وسحبناه إلى منتهاه.. وأقصد به خيط “حريق القاهرة” الشهير الذي حدث قبل حركة الضباط بستة أشهر فقط (26 كانون الثاني/ يناير 1952م)، وهو الحدث الذي يتصل اتصالا وثيقا وحاكما ودالا للغاية بما قبله وبما بعده.. ما قبله كان 25 كانون الثاني/ يناير وما بعده كان 23 تموز/ يوليو من نفس السنة 1952م!
ففي صباح يوم 25 كانون الثاني/ يناير 1952م استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة ضابط الاتصال المصري، وسلمه إنذارا بأن تسلم قوات البوليس المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية وتجلو عن دار المحافظة والثكنات وترحل عن منطقة القناة كلها. ورفضت المحافظة الإنذار -وأرجو التركيز قليلاً هنا- وأبلغته إلى وزير الداخلية سراج الدين باشا (ت 2000م) الذي أقر موقفها وطلب منها الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام..
ودارت موقعة من أشرف مواقع التاريخ الحديث بين 500 جندي وضابط مصري وسبعة آلاف إنجليزي بمدرعاتهم ودبابتهم! وقتل خمسون مصريا بين ضابط وجندى.. وانتشر الخبر وعم ربوع البلاد وشعب البلاد.. وفي الساعة السادسة من صباح 26 كانون الثاني/ يناير قام الجنود بتمرد في ثكناتهم بمنطقة العباسية في القاهرة وامتنعوا عن القيام بمهامهم الخاصة بحفظ النظام، وعند الظهر تجمعت مظاهرات الطلاب للذهاب إلى ميدان الأوبرا بقلب القاهرة والتوجه إلى جامعة القاهرة، للاحتجاج على ما جرى بالإسماعيلية..
وإذ تبين أن “ثورة كبرى” على وشك الاشتعال وتحمل بداخلها كل أسباب ومقدمات ونتائج نجاحها وتحولها إلى ثورة شعبية حقيقية -وضع تحت هذه الجملة ألف خط- فما كان من التاريخ المخفي إلا أن يحكي لنا أنه وفي الثانية عشرة ظهرا من نفس اليوم كانت النيران قد اشتعلت في نحو 300 محل من أكبر المحلات التجارية، و30 مكتبا لشركات كبرى و117 مكتب أعمال وشقة سكنية، و13 فندقاً كبيراً، و40 دار سينما و73 مقهى ومطعما.
كل المصادر وشهود العيان وقتها أكدوا أن الحادث لا يمكن ألا أن يكون “مدبرا”، وأن المجموعات التى قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة لا يمكن أن يتوفر إلا لرجال “مخابرات مجهزين لعمليات خاصة”. فقد كانوا على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وكانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة والمهارة في تنفيذ مهمتهم.
كانت مظاهرات صباح 26 كانون الثاني/ يناير من أندر وأعظم المشاهد في تاريخ المصريين منذ ثورة 1919م، فجاء حريق القاهرة ليضع نهاية لكل هذا.. وفورا أُعلنت الأحكام العرفية وأُقيلت الحكومة.. وبعد ستة أشهر قام “الضباط” بقلب نظام الحكم وإخراج الملك فورا من البلاد، وتم كل ذلك سريعا سريعا.. وبرعاية أمريكية ممثلة في سفيرها بالقاهرة “جيفرسون كافري” (ت 1974م)، والذي كان في وداع الملك بنفسه شخصيا.
لا يستطيع أحد أن يتهم الضباط بحريق القاهرة الموضوع كان أوسع وأكبر منهم كثيرا.. إذ كانت القاهرة في هذا الوقت “مركز أعصاب” كل أجهزة المخابرات العالمية في الشرق.. لكن ما نعرفه أنه لم يجر تحقيق في هذا الحدث الضخم غير العادي
سيحكي الضباط في مذكراتهم (عبد اللطيف بغدادي/ المكتب المصري الحديث) نموذجا.. سيحكون فيما يحكون أنهم كانوا قد حددوا عام 1955م للقيام بحركتهم المباركة، لكنهم “بعد الحريق” قاموا بها بعد ستة أشهر فقط.
لا يستطيع أحد أن يتهم الضباط بحريق القاهرة الموضوع كان أوسع وأكبر منهم كثيرا.. إذ كانت القاهرة في هذا الوقت “مركز أعصاب” كل أجهزة المخابرات العالمية في الشرق.. لكن ما نعرفه أنه لم يجر تحقيق في هذا الحدث الضخم غير العادي، والذي نسبه الأستاذ هيكل إلى “مجهولين”؛ كأنه كان حريقا في فرح بنت العمدة مثلا!
وأختم هنا بكلمة منذرة محذرة شارحة واضحه للعلامة جمال حمدان (ت 1993م) في عمله الكبير “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان”: إن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية.. بمعنى ثورة على نفسها أولا وعلى نفسيتها ثانيا.. أي تغيير جذري في العقلية والمُثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها.. ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية.. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر.. ولنركز من الآن على عيوبنا.. لننظر إلى عيوبنا في عيونها في مواجهة شجاعة.. لا لننسحق بها ولكن لنسحقها! لا لنسيء إلى أنفسنا ولكن لنطهر نفوسنا.