[تقرير] لَميا يارد تستعيد أمجاد الأناضول الغابرة وتصيغ ’’الأضواء العثمانية‘‘
أطلق ’’مركز موسيقيي العالم ‘‘ مؤخرا في مونتريال الألبوم الباكورة لفرقة ’’أوراسيونس‘‘ (Oraciones) بعنوان ’’أضواء عثمانية‘‘ بإنتاج مشترك مع شركة الاسطوانات الكندية المتخصصة بالموسيقى الكلاسيكية (Analekta). ساهم في هذا الألبوم العديد من الفنانين من أصول عدة على رأسهم الفنانة الكندية اللبنانية لميا يارد، التي تؤدي كل أغنيات الألبوم.
للخوض في الأغنية التي تؤديها لميا يارد، يجب الإبحار في في تاريخ ’’الدولة العثمانية العلية‘‘ أو ’’الخلافة العثمانية‘‘ التي امتدت قرابة 600 سنة من القرن الخامس عشر وحتى بداية القرن العشرين. الفنون التي نشأت في تلك الحقبة في منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى، شكلت الإلهام والوحي للفنانة الكندية اللبنانية التي طفقت تلملم كل تفصيلة صغيرة وكبيرة، تجمع المخطوطات والوثائق و الريبرتوار الغنائي لذلك الماضي الغابر الذي شهد نهضة على كافة الصعد، بينها النهضة الفنية الموسيقية. هذه الأخيرة كانت نتيجة مشاركة عدة هويات ثقافية فيما بينها جمعتها ثقافة عثمانية واحدة. ’’السفارديون كانوا عثمانيين واليونانيون أيضا والأتراك والفرس، جميعهم كانوا يعبرون بلغات مختلفة وإنما متأثرة بثقافة واحدة هي الثقافة العثمانية‘‘، كما قالت لميا يارد في لقائي معها بعد تقديم حفلها الأخير في مدينة مونتريال يوم 19 حزيران / يونيو الماضي.
عاشقة الشرق القديم
أنا ذلك الممر إلى الثقافات والحضارات القديمة، جسر يعبر عليه المهتمون بالتراث الشرقي القديم. هذا الأخير أعيد صياغته، أبنيه من جديد بحلة بهيّة تصل إلى المتلقي الغربي، بلغته الأصلية ولكن بتوزيع جديد يحفظ الأصالة وديمومتها.
منطقة الأناضول أو أسيا الصغرى، التي تعتبر اليوم مرادفا لتركيا الآسيوية، كانت ملتقى الحضارات في عهد الخلافة العثمانية. عاش فيها اليهود السفارديون الذين أرغموا على مغادرة إسبانيا نهاية القرن الخامس عشر، والأرمن والإغريق والرومان والبيزنطيون وسلاجقة الروم والعثمانيون. وقد اختلطت ثقافات كل هذه الشعوب بين بعضها البعض لتشكل مزيجا حضاريا غنيا وعصرا نهضويا سيبقى تأثيره إلى يومنا هذا.
تعتبر الفنانة الكندية اللبنانية الشابة بأن تلك الموسيقى التي ولدت في منطقة الأناضول هي الجامعة لكل القوالب الموسيقية المشرقية.
(أغنية باللغة اليونانية يتضمنها الألبوم الجديد ’’أضواء عثمانية‘‘ وهو الثاني في مسيرة لميا يارد الفنية. تجدر الإشارة إلى أن الألبوم الأول كان افراديا، و أما الألبوم الثاني ففيه مشاركة بين يارد ونخبة من موسيقيين يعيشون في مونتريال وينتمون إلى ’’مركز موسيقيي العالم‘‘ الذي يلقى التمويل في شكل خاص من ’’مجلس الفنون الكندي‘‘ و ’’مجلس الفنون والآداب الكيبيكي‘‘.)
وصلت لميا يارد إلى مونتريال عندما كانت طفلة في ربيعها السادس، ولكنها ظلت طيلة عمرها تواقة إلى ماضي الأجداد في الشرق، لم يكفها أن تحفظ الترانيم السريانية من جذور والدتها المارونية والترانيم البيزنطية من جذور والدها الذي ينتمي إلى كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك. بل غاصت أكثر في الموسيقى السفاردية والتركية والفارسية والإغريقية، وهي تغني بلغات: اللادينو (الكثير من الاسباني والقليل من العبري) والتركية والفارسية واليونانية والسريانية والعربية. تقول لميا يارد ’’قد لا أكون أتقن كل هذه اللغات ولكنني أفهم كلمات الأغنيات التي أؤديها كما أنني أتقن اللهجة وطريقة النطق تماما، وهذا أخذ مني الكثير من الجهد والوقت، والكثير ايضا من الحب والعشق والتوق إلى الانتماء إلى كل ذلك الكنز الموجود في التراث الشرقي القديم‘‘.
تتمازج الهويات فيما بينها ويصعب تحديد تأثير هذه الثقافة أو غيرها على الريبرتوار الغنائي الثري الذي عثرت عليه في ترحالي المستمر وزياراتي المتكررة إلى تركيا واليونان وسوريا ولبنان، لاقتفاء أثر يهود إسبانيا والأتراك والفرس والإغريق وكل الإرث الموسيقي الغني والمتنوع.
’’لي روحانيتي الخاصة‘‘
تؤكد المتحدثة بأنها لا تنتمي إلى ديانة بعينها ولا تمارس أياً من الشعائر الدينية، ’’لست ملحدة ولكن كل ما هنالك أن لدي روحانية خاصة أجدها في الغناء، الذي هو أشبه بالصلاة والابتهال بالنسبة لي مع كل تلك الطقوس الليتورجية التي تتشكل في الفضاء الرحب محدثة ولوجا إلى العمق الإنساني والروحاني والإلهي‘‘، على حد تعبير لميا يارد.
هذا ما حدث فعلا تلك الليلة خلال إحياء لميا يارد وفرقة ’’أوراسيونس‘‘ الحفل الغنائي في إطار فعاليات النسخة الخامسة من ’’مهرجان موسيقيي العالم‘‘ داخل كنيسة ’’الطفل يسوع‘‘ في وسط مدينة مونتريال.
توليفة شمولية متكاملة قلبا وقالبا، أدت رسالة الانعتاق والارتقاء والبهاء التي تنشدها يارد في موسيقاها الهادئة الخاشعة التي تداوي النفوس و تبلسم جراح الأرواح. أو ليس العثمانيون هم من ابتكر العلاج عن طريق الموسيقى؟
تضافرت كل التفاصيل في ذلك الحفل لتعكس ’’الأضواء العثمانية‘‘ التي شعّ وهج نورها في كل أرجاء المكان. ساد صمت مطبق، خشوع متناهي وإغماض جفون واسترخاء وتسليم كلي عند غالبية الحضور، بغالبيته من الكنديين المخضرمين. هؤلاء دخلوا في حالة سكر وانخطاف واتحاد في عوالم غابرة، تحرر الحضور، انعتق عن المكان والزمان والتصق بعالم بعيد لن يعود منه إلا لحظة إعلان نهاية الحفل و إسدال الستارة، علما أن الحضور أطال في التصفيق ليكسب المزيد من ذلك الدفق في الاحساس والانسياب الروحي المتسامي.
اسم الفرقة ’’Oraciones‘‘ يعني ’’الصلاة‘‘ بلغة اللادينو، كذلك أجواء الكنيسة أتت خشوعية بامتياز، يضاف إلى ذلك صوت لميا يارد المحلّق في الفضاء الأرحب برفقة آلات وترية تدفق أنغاما والحانا تنساب عذوبة ورقة. هذه هي الموسيقى عينها التي سخرّها السلاطين في الخلافة العثمانية للمساهمة في التخفيف عن المرضى بخاصة النفسيين، وتغيير حالتهم العاطفية والمزاجية عن طريق الموسيقى. تروي يارد ’’في العهد العثماني، كان الموسيقيون يعزفون مقامات مختلفة حسب حالة كل مريض، فبعضهم كان يتأثر بمقام الحجاز وآخر بمقام الكرد وغيره بالرست. كذلك فإن الآلات ذاتها تختلف بتأثيرها على الحالات النفسية. ويعود إلى الدولة العثمانية العلّية الفضل في إرساء علاج الأمراض عن طريق الموسيقى في أوروبا، في القرن الثامن عشر حين كان التواصل الحضاري بين الدولة العثمانية وأوروبا قد بلغ ذروته‘‘.
’’أنا منعتقة عن كل شيء، مترهبة في محراب الفن‘‘
لا يهم لميا يارد سوى العمق والجوهر غير آبهة بالقشور، تبحث عن إرضاء ذاتها وتحقيق أحلامها و إشباع نهمها للمعرفة الشاملة والمعمقة. ’’قبل عشرين عاما قالت لي استاذة متخصصة بالموسيقى السفاردية: إن علي أن أغوص في عوالم تلك الموسيقى واستقي ذخيرة موسيقية جامعة وموحدة لعدد كبير من الثقافات والحضارات. هذه الموسيقى السفاردية متأثرة بالموسيقى التركية واليونانية والفارسية والعربية، وكلما تعمقت في ريبرتوار تلك الموسيقى كلما زاد لدي ذلك التوق إلى معرفة المزيد أكثر فأكثر‘‘. تردف المتحدثة بالقول: ’’في الماضي البعيد، عاشت الشعوب على اختلافها في وئام وسلام وتعايش، لم تكن تطغى السياسة والنظام الجيو-سياسي في بلدان الشرق الأوسط، وكان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون جنبا إلى جنب و بوئام وألفة وانسجام‘‘. من هذا القبيل تؤكد يارد ’’أن لا دين تعتنقه ولا منطقة جغرافية تنتمي إليها ولا تيار سياسي تنضوي فيه، بل أنا فنانة حرّة أقدم فنا لأجل الفن وهويتي هي النغمة والإيقاع‘‘.
(لميا يارد تغني موشح ’’جلّ من أنشأ جمالك‘‘)
لا أحدد نفسي بلون فني أو لغة أو لهجة أو بلد أو حضارة أو ثقافة، أنا أنتمي إلى كل ما هو جميل، إلى المعرفة الشاملة وإلى الكون اللامتناهي[…] في صبو دائم إلى الكمال والارتقاء. إذا كنت أستطيع أن أكون الكل، فلماذا أكتفي بالجزء، أنا كل تلك الفضاءات الرحبة الغناء وكل الوجود!
سخّرت لميا يارد كل الطاقات من أجل صقل موهبة الغناء المتعدد الأصول واللغات، درست العود في سن متأخر ’’كنت في الـ 29 من عمري، والغاية كانت أن أرافق نفسي بالغناء خلال التمرينات الفردية‘‘، ودرست الأدوار والمقامات العربية وكذلك الموشحات الأندلسية وايضا اللغات (الاسبانية والعبرية واليونانية والتركية والفارسية) التي اشتهرت أيام الخلافة العثمانية في آسيا الصغرى.
تقول المتحدثة إن جزءا كبيرا من وقتها تمضيه في الأبحاث والكتابة وإعادة صياغة الألحان، ’’أن لا أكتب الألحان ويكفيني كتابة الأبحاث وإتقان الأداء الصحيح والغناء، هذا يتطلب مني مجهودا جبارا‘‘.
تقتنص ليما يارد كل الفرص للمزيد من التعرف والتعريف بموسيقى الشرق القديم. تتواجد حاليا في اليونان حيث قدمت حفلة في مدينة هيراكليون في جزيرة كريت كما شاركت في دورة لتعليم الصولفيج و غناء الموشحات والعزف على العود لـ 15 طالبا من اليونان وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، كما توضح لميا يارد. هذه الجولة يرعاها ويمولها ’’مجلس الفنون والآداب في كيبيك‘‘ (CALQ).
يذكر أن يارد التي تعيش في مونتريال، منتسبة إلى ’’مركز موسيقيي العالم‘‘ الذي يسمح بتجاذب وتمازج واختلاط كل الفنون في ما بينها، في توليفية عالمية تجيب على طموحاتها وسعيها إلى تحقيق السمو الإنساني. في المركز، وبالإضافة إلى التبادل ودمج الخبرات والتجارب مع غيرها من الموسيقيين من جنسيات مختلفة، تعطي لميا يارد دروسا في الموسيقى وغناء الموشحات وحتى في طريقة الأداء باللغة العربية، ’’إنني فخورة بكل ذلك وأريد الاحتفاظ بكل الهويات التي بلورت كياني وساهمت في وصولي إلى ما أنا عليه اليوم‘‘، خلصت لميا يارد إلى القول.
بالنسبة إلى هويتي الاجتماعية، فأنا شرق أوسطية بقيمي وتقاليدي والصفات التي أحملها في كياني من جذوري اللبنانية: سهولة الاندماج، الانفتاح على الآخر، حب المشاركة ومد يد المساعدة، الكرم والتوق إلى الترحال الدائم […] أما كندا فهي توفر لي الراحة النفسية وفرصة تحقيق أحلامي، مونتريال هي مكان محفز على الابتكار والإبداع.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)