ماذا فعل المصلحون بالإصلاح؟!
أذكر أن أحد القادة التاريخيين من كبار رجال “الحركة الإصلاحية” ذكر ذات مرة أنه تمنى لو أتيحت له الفرصة ليؤلف كتابا عن كيفيه معالجة الصدام التاريخي الدائم بين الإصلاحيين والدولة الوطنية بعد الاستقلال وهي الحالة التي أصبح استنساخها من بلد إلى بلد ومن فترة إلى أخرى أحد علامات التاريخ العربي المعاصر، بل تكاد تكون إحدى متلازمات الإنسان الشرقي في العصر الحديث.
والموضوع بالطبع لا يتحمل مسؤوليته طرف واحد، بل إن مسؤوليات الأطراف هنا لا تتساوى بالفعل من زوايا النظر الموضوعية والعملية على الأقل. لكن الحركة الإصلاحية لديها إشكالية كبرى في هذا الموضوع ولها تخريج وتبرير يساهم في تكريسها وتكرارها حتى الآن.. وأقصد العنوان الكبير الذي نشرته وعممت نشره طوال العقود الماضية، وهو أن “المحن طريق الدعوات”.
وحين تستدعي الموضوع للنقاش حول ضرورة التفريق الأمين والعلمي بين “المحنة” و”الخطأ” لا تجد ردا.. بل لا تجد أحدا. خذ مثلا.. إذا طرحت سؤالا تاريخيا قد يكون خارج سياق زمانه.. هو كيف ساندت الحركة الإصلاحية في مصر تغيير نظام الحكم الملكي في مصر 1952م عن طريق الدبابة والمدرعة؟.. رغم أن الحقيقة التاريخية القريبة (سوريا- أمريكا اللاتينية) كانت تشير إلى خطأ هذا المسار، كما وأن الطبيعة الاستراتيجية له أصلا تثير تغييرا حادا وعاصفا في الحياة السياسية المصرية التي ناضل الشعب والزعماء طويلا لاستقرارها ورسوخ أدواتها من أحزاب وبرلمان.. الخ، والتي كادت أن تستقر وقتها في طبقة سياسية واضحة تتقن تماما لغة السياسة وممارسات السياسة، التي هي حياة الشعوب.
حين تستدعي الموضوع للنقاش حول ضرورة التفريق الأمين والعلمي بين “المحنة” و”الخطأ” لا تجد ردا.. بل لا تجد أحدا. خذ مثلا.. إذا طرحت سؤالا تاريخيا قد يكون خارج سياق زمانه.. هو كيف ساندت الحركة الإصلاحية في مصر تغيير نظام الحكم الملكي في مصر 1952م عن طريق الدبابة والمدرعة؟
بل وكادت الحركة الإصلاحية نفسها في أواخر الأربعينيات أن تدفع بما تيسر لها من أفكار ورجال في هذه الطبقة المنتظمة في أحزاب، وكان أقرب الأحزاب إليها هو الحزب الوطني القديم ويرأسه الراحل فتحي رضوان (ت 1988م).. وكانت تدير مناقشات واسعة مع كبار رجال الحركة الوطنية وكبار المفكرين حول هذا الموضوع.
* * *
بل وكان هناك من الإسلاميين من ينظر بعيون واسعة ومنتبهة إلى “الحركة الفابية” في إنجلترا التي أسسها سنة 1884م لفيف من المفكرين البريطانيين؛ الذين كانوا يراقبون ظروف المجتمع البريطاني وتبرؤوا من التورط في العمل السياسي خاصة عندما يقوم على صراع دموي عنيف، وأن البديل المباشر والضروري هو الحكمة والموعظة الحسنة، والتغلغل الهادئ واختراق الأشخاص والهيئات واكتساب إيمانهم الطوعي. وكان على رأس هؤلاء المفكرين الكاتب المسرحي الشهير جورج برنارد شو (ت 1950م).
والعهدة في هذه الرواية التاريخية الهامة التي ذكرتها عن المشاركة الواسعة للحركة الإصلاحية من خلال الانخراط في الطبقة السياسية القائمة؛ على المفكر الكبير طارق البشرى رحمه الله (ت2021م) وسمعتها منه بنفسي.
الحاصل أن الخط المستقيم الذي كان يعرف كيف يمتد على استقامته بالقصور الذاتي التاريخي، انحرف إلى مسار خارج تلك الاستقامة.. ولا تسألني هنا عن دهاء التاريخ ولا دهاليز التاريخ.. لكن ما نعرفه أنه ذات مساء خريفي مليء بغيوم روايات عمنا الروائي ديستوفسكي؛ ظهرت فجأة في سماء السياسة “فكرة التغيير السياسي السريع بالدبابة”.
الحاصل أن الخط المستقيم الذي كان يعرف كيف يمتد على استقامته بالقصور الذاتي التاريخي، انحرف إلى مسار خارج تلك الاستقامة
* * *
تقول الحكاية التي لها رواية والقصة التي بلا نهاية أن الراحل أحمد مظهر (ت 2002م)، الممثل المشهور وكان وقتها ضابطا في سلاح الفرسان، ذهب إلى والد زوجته محمد صلاح الدين باشا (ت1957م)، وزير الخارجية العروبي العتيد والوفدي الخالص.. وسأله عن رأي حزب الوفد في تحرك عسكري يهدف إلى تغيير النظام الملكي، فتكدر الرجل وتغير وجهه ورفض الفكرة تماما وقال إنها ستكون قفزة خطيرة إلى المجهول.. الأستاذ مظهر بدوره رجع الى مُرسله، وكان قائد تنظيم الضباط الأحرار وأبلغه بما سمع.
نحن الآن أمام قراءات واسعة لحدث استثنائي محض (تحرك عسكري لغرض سياسي) وكل القياسات عليه أتت بنتائج سيئة.. ومع ذلك فلم يأخذ حقه الكافي دراسة واستقراء من أهم رافعة تاريخيه للنهضة العربية والإسلامية وقتها..!!
لم نسمع أي قراءة يتحمل فيها أطراف هذا الحدث أي مسؤولية عن هذا الموقف التاريخي المخالف حتى لأدبيات التوافق السياسي والإصلاحي، خاصة وأن الأستاذ حسن الهضيبي (ت 1973م) زار الملك فاروق (ت 1965م) في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1951م وخرج من الزيارة يقول: “زيارة كريمة لملك كريم”.
لم يحدثنا أحد عن حجم الصواب وحجم الخطأ في تقدير الموقف السياسي والاجتماعي داخليا، أيضا ظروفه الإقليمية والدولية وقتها.. وقد ذكرت أولا أن السؤال في زمن تاريخي..! وبالتالي فإجابته ستحمل حمولته التاريخية!.. وهذا ليس صحيحا، لسبب بسيط، وهو أنه سؤال عابر للتاريخ.
نشير إلى موقفين بالغي الأهمية، ويتعلقان بالموضوع الصعب وآثاره الصعبة وما أنتجه من كل صعوبة مرت على مر السنين.. وهما الفارق بين “الاضطهاد” و”البحث عن الاضطهاد”! وسيتبادر إلى الذهن السؤال البريء عمن هو الذي سيبحث عن الاضطهاد
* * *
دعونا هنا تتمة للفكرة والموضوع نشير إلى موقفين بالغي الأهمية، ويتعلقان بالموضوع الصعب وآثاره الصعبة وما أنتجه من كل صعوبة مرت على مر السنين.. وهما الفارق بين “الاضطهاد” و”البحث عن الاضطهاد”! وسيتبادر إلى الذهن السؤال البريء عمن هو الذي سيبحث عن الاضطهاد.
لن أتعسف كثيرا في المقارنة حين أستشهد بالحالة المسيحية عبر التاريخ.. خصوصا في الفترة المعروفة بعصر الشهداء المسيحي (105م-305م).. وقد أوردت الباحثة الأستاذة “مارلين تادرس” في كتابها المهم “الأقباط بين الأصولية والتحديث”؛ تفاصيل كثيرة عن ذلك، وقالت إن اضطهاد المسيحيين وقت الإمبراطورية الرومانية لم يكن بسبب إيمانهم.. ولكن بسبب أفعالهم! وبدأ القبض عليهم والتعامل معهم بما هو معروف في التاريخ.
وتوجز بجملة معبرة فتقول: كان الأعداء الداخليون في الكنيسة أكثر من الأعداء خارجها.. وتقول إن عبادات المسيحيين في ذلك الوقت كانت تجرى في الليل وفي أماكن مغلقة وتشوبها السرية، مما أثار الشائعات حولهم من أنهم يأكلون لحوم البشر ويمارسون الجنس في العبادة!.. وتقول إن الذي حفظ المسيحية ليس هؤلاء المضطهدَين، بل كانوا الأفراد الأكثر اتزانا وهدوءا؛ الذين ارتفعت أصواتهم الحكيمة والعاقلة من داخل المسيحيين تدافع عن المسيحية والمسيحيين وتوضح ماهية المسيحية للعامة، وهي تلك الأصوات التي سميت فيما بعد في تاريخ المسيحية بـ”المدافعين”.
* * *
نحن أمام حالات إنسانية عبر تاريخ البشر على الأرض.. والبشر هم البشر والشجر هو الشجر والحجر هو الحجر، كما يقال.. فقط تتلون وتتشكل كل حقبة بألوان وأشكال زمنها وتاريخها..
وكل من قرأ تجربة الخمسينيات الشهيرة في الصدام بين جمهورية الجيش الوليدة حينئذ وبين أكبر تيار إصلاحي في المجتمع وقتها، يجزم بأن كل ذلك كان من الممكن جدا عدم حدوثه ومنعه من لحظاته الأولى.
كان من الممكن أن تستدير الحركة الإصلاحية وقتها 180 درجة، وتتجه بكل طاقتها إلى نفسها وإلى المجتمع.. فتبني رجالها وأبناءها بناء تربويا وفكريا قويا، وتنطلق بقيم “المأثورات” إلى عموم الناس في ربوع القرى والبلدات؛ تعلمهم وتنورهم وترشدهم إلى طرق الخير التي تبني به إنسانا وتشيد به وطنا.. محتفظة لنفسها بعلاقة جيده مع السلطة الوليدة
وكم الأخطاء التي صدرت قولا وفعلا لا يمكن أبدا تحميلها على حمولة “المحن طريق الدعوات”، رغم أن الجملة لها نصيبها من الصحة حين توضع في ظرفها الموضوعي والتاريخي. وكان من الممكن بسهولة تفويت الفرصة على جمهورية الجيش الوليدة في إحداث هذا الشرخ الأليم، والذي أنتج كمّا من الشروخات والتصدعات بل والانهيارات؛ لا زال قائما إلى الآن.. خاصة بعد أن أتضحت لهم وقتها كل الخفايا، وظهر أن هناك تراضيا استراتيجيا دوليا عما حدث بل ودعمه..
كان من الممكن أن تستدير الحركة الإصلاحية وقتها 180 درجة، وتتجه بكل طاقتها إلى نفسها وإلى المجتمع.. فتبني رجالها وأبناءها بناء تربويا وفكريا قويا، وتنطلق بقيم “المأثورات” إلى عموم الناس في ربوع القرى والبلدات؛ تعلمهم وتنورهم وترشدهم إلى طرق الخير التي تبني به إنسانا وتشيد به وطنا.. محتفظة لنفسها بعلاقة جيده مع السلطة الوليدة، بما يمكنها من قول النصيحة الخالصة المصفاة من كل شوائب الغرض والمنافسة، وبعلاقة متينة مع المجتمع بما يمكنها من تحقيق كل هذه الأهداف الكبرى وتعميم الحركة الهادفة إلى مكارم الأخلاق (التي بعث الرسول الكريم لتتميمها)..
لكن هذا لم يحدث.. وحدث غيره الذي لا زال يحدث..!
ستظل الدائرة تدور في محيطها الذي قد يتسع قليلا ويضيق كثيرا، طالما لم تتفق الحركة الإصلاحية والمجتمع والدولة على سؤال بالغ الأهمية.. عن دور الدين وموقعه في المجال العام.