حوار مع النفس

اغتال جيش الاحتلال شيرين.. هل نبدأ مرحلة جديدة من حرية الإعلام؟

 

سليمان صالح

شيرين أبو عاقلة (الجزيرة)

جميلة أنت في الموت يا شيرين كما قال يوما محمود درويش لغسان كنفاني عندما اغتاله جيش الاحتلال الصهيوني، وسر جمالك في الموت أنك كافحت لتقدمي المعرفة لجمهورك وتكشفي له الحقائق عن جرائم الصهاينة ضد شعب فلسطين.

كنت دائما جميلة وأنت تبذلين كل جهدك لتروي قصة شعب فلسطين الذي لم يجد حتى الآن من يروي قصته.

قدم شعب فلسطين للدنيا تجربة متميزة في مقاومة الاحتلال، ويمكن أن تقلده كل الشعوب التي تحلم بالحرية والتحرير والعدل والاستقلال.

سيطرت أميركا على النظام الإعلامي العالمي، ودفعت هذا النظام للتحيز للرأسمالية والقوى الاستعمارية ضد الشعوب الضعيفة التي تكافح لمواجهة الفقر الناتج عن النهب الرأسمالي لثرواتها

جريمة النظام الإعلامي العالمي

والنظام الإعلامي العالمي ارتكب جريمة بحق شعب فلسطين وفي حق كل الشعوب عندما قام بإخفاء تجربة شعب فلسطين في الكفاح ضد الاحتلال، ولم يسمح لهذا الشعب بأن يروي قصته.

سيطرت أميركا على النظام الإعلامي العالمي، ودفعت هذا النظام إلى التحيز للرأسمالية والقوى الاستعمارية ضد الشعوب الضعيفة التي تكافح لمواجهة الفقر الناتج عن النهب الرأسمالي لثرواتها.

وكان شعب فلسطين أهم الشعوب التي تعرضت للظلم، حيث تبنى النظام الإعلامي العالمي الرواية الإسرائيلية ورفض تقديم الحقائق حول الجرائم والمذابح التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين الذين فرض عليهم العالم الحصار فلم يتمكنوا من الحصول على سلاح يواجهون به جيش الاحتلال الذي أمدته أميركا بأحدث الأسلحة ليقتلهم دون أن يعرف العالم قصة كفاحهم وعذابهم وموتهم.

رصاصة في رأس الصحافة

كان اغتيال جيش الاحتلال لشيرين متوقعا، فهو يدرك أهمية الإعلام وقدرته على تغيير اتجاهات الشعوب عندما يوفر لها المعرفة عن كفاح شعب فلسطين، لذلك وجه القناص الصهيوني رصاصته القاتلة إلى رأس الصحفية المتميزة شيرين أبو عاقلة ليمنع وصول الحقيقة إلى الجماهير.

وهذا الجندي الصهيوني يمثل غرور القوة والغطرسة اللتين تقومان على التفرقة العنصرية، وهو يدرك أن قوة الاحتلال تقوم على حرمان الشعوب من حقها في معرفة الحقيقة التي كانت شيرين تقوم بنقلها.

أما شيرين فإنها تمثل الصحافة الحرة التي يمكن أن تصبح وسيلة الشعوب للكفاح ضد الاحتلال والاستبداد، وعندما تعرف الشعوب قصة شعب فلسطين وكفاحه فإن كل الشعوب يمكن أن تقلده في صموده وإصراره على انتزاع حريته واسترداد حقوقه.

كانت شيرين نموذجا -وليس مجرد شخص- لصحافة البحث عن الحقائق، وتسجيل بطولات الشعوب وهي تحلم بالحرية والاستقلال والعدل وتكافح لتحقيق حلمها.

ليس مجرد بحث عن المتاعب

كنا ندرك يا شيرين عندما تعلمنا الصحافة في كلية الإعلام أنها مهنة البحث عن المتاعب، وأن من يريد الحياة السهلة السعيدة يجب أن يبتعد عن هذه المهنة، فكل المستبدين والفاسدين واللصوص أعداء لكل صحفي حر يعتز بالانتماء لمهنته ويكافح ليكشف الحقائق.

وأنت يا شيرين كنت شجاعة إلى الدرجة التي دفعت جيش الاحتلال لتوجيه رصاصة إلى رأسك المرفوع كرمز لصحافة حرة تقاوم الظلم بتوعية الجماهير وتشكيل الرأي العام.

من حق شيرين علينا أن نروي لكل الشعوب قصة شعبها الذي يصر على التمسك بحقوقه ويقدم التضحيات التي تشكل نموذجا لكل الشعوب في كفاحها من أجل الحرية

وجيش الاحتلال الصهيوني يدرك تماما خطورة الصحافة عندما ترفع رأسها لتتحدى الطغيان والظلم والاستكبار والعنصرية.

وشيرين أدركت قوة الكلمة الحرة، وتمسكت بأخلاقيات الإعلام، وكافحت لتحافظ على مصداقيتها، فنالت ثقة جماهيرها التي كانت مصدر قوتها، فلم يجد جيش الاحتلال سوى رصاصة الغدر يوجهها إلى رأس شيرين الجميل، لكنه عندما وجه رصاصته إلى رأسها لم يفهم أنه وجه الرصاصة إلى رأس حرية الصحافة وإلى الحضارة الحديثة التي أصبحت وسائل الإعلام أهم تجلياتها ووسائلها ومميزاتها.

وبالتأكيد، فإن كل صحفي حر يشعر بالألم والحزن، لكن هل يمكن أن يكتفي الصحفيون الأحرار بالتعبير عن أحزانهم؟!

مرحلة جديدة للكفاح لحماية حرية الصحافة

من حقنا أن نحزن على شيرين، لكن الحزن ترف لا يطيقه الصحفيون الأحرار، والشعوب تنتظر منا أن ننتفض لنبدأ مرحلة كفاح جديدة من أجل حرية الصحافة ولحماية حق كل صحفي في العالم في تغطية الأحداث ونقل الحقائق إلى جمهوره.

من حقنا أن نحزن على شيرين، ولكن من حقها على كل صحفي حر أن يكون حزنه إيجابيا فيواصل الكفاح لنقل الحقائق عن كفاح شعب فلسطين ضد الاحتلال لتحرير أرضه والدفاع عن مقدساته.

من حق شيرين علينا أن نروي لكل الشعوب قصة شعبها الذي يصر على التمسك بحقوقه ويقدم التضحيات التي تشكل نموذجا لكل الشعوب في كفاحها من أجل الحرية.

ومن حق شيرين علينا أن نكافح لبناء نظام إعلامي عالمي جديد يوفر لكل الشعوب الحق في رواية قصتها ويرفض النفاق والمعايير المزدوجة والسيطرة الأميركية على تدفق الأنباء.

من حق شيرين علينا أن نكافح لنفرض على كل النظم الحاكمة احترام كرامة الصحفيين وحقوقهم وهم يقومون بوظيفتهم في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة.

الشعوب تريد الصحفيين الأحرار

إننا يمكن أن نلاحظ بوضوح أن الحزن على شيرين لم يقتصر على الإعلاميين، لكن الشعوب شاركتنا الحزن والغضب، وهذا يوضح أن الشعوب تحب الصحفي عندما يكون حرا ويقوم بوظيفته في البحث عن الحقائق التي تضيء للشعوب طريقها وهي تكافح لبناء مستقبلها على أساس الحرية.

الشعوب يمكن أن تدافع عن حرية الصحافة عندما تدرك أن الصحفيين يدافعون عن حرية الشعوب وحقوقها ويكافحون لرواية قصص كفاحها.

ولأن من أهم وظائف القائد أن يروي قصة كفاح شعبه فإن الصحافة الحرة التي تروي القصة يمكن أن تقوم بدور القيادة في رحلة كفاح جديدة ضد الاحتلال والطغيان والاستبداد والظلم.

إن الشعوب التي شاركتنا الحزن على شيرين من حقها علينا أن نكافح لإسقاط كل القيود على حرية الصحافة، لتتمكن وسائل الإعلام من الوفاء بحق الجماهير في المعرفة، فهذه وظيفتنا الأولى، ونحن بذلك نساهم في بناء المستقبل وإقامة مجتمعات المعرفة.

إخفاء الجريمة بقتل الصحفيين

والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا ونبحث عن إجابة متعمقة له هو: لماذا اغتال جيش الاحتلال شيرين؟ لقد كانت شيرين مع مجموعة من الصحفيين في طريقهم لتغطية غارة يشنها جيش الاحتلال على جنين التي استعصت على الاحتلال وصمد أهلها في وجهه، فقدموا نموذجا للمقاومة الشجاعة التي يمكن أن تحيي آمال الشعوب في التحرير، لذلك أراد جيش الاحتلال أن يخفي جريمته، وأن يمنع الصحافة من التصوير ونقل الحقائق إلى العالم كما تفعل النظم الدكتاتورية.

وكان جيش الاحتلال يعرف تماما قبل أن يطلق الرصاص أن هؤلاء صحفيون يقومون بوظيفتهم في تغطية الحدث، لذلك فإن الصحافة في كل أنحاء العالم يجب أن تقوم بوظيفتها في كشف الجرائم الإسرائيلية ضد شعب فلسطين.

الكاميرا سلاح

في تبريره للجريمة قال المتحدث باسم جيش الاحتلال “إن شيرين كانت مسلحة بكاميرا”، فهل الكاميرا سلاح؟! إنها الحقيقة التي كشفها الحدث بوضوح، فجيش الاحتلال يخشى الكاميرا لأنها تكشف جريمته وتقدم الأدلة على صلف هذا الجيش وغطرسته وعنصريته واستهانته بالحياة الإنسانية، وأنه لا يعترف بالقيم الحضارية.

ومن الواضح أن شيرين تحدت بكاميرتها الرواية الإسرائيلية للأحداث وأوضحت زيفها، لذلك قتلها القناص الإسرائيلي عمدا، ليمنع وصول الحقائق عن الجرائم الصهيونية للجماهير.

لقد ضحت شيرين بحياتها لتوضح للعالم ما يحدث في الأراضي المحتلة وكيف يقاوم الفلسطينيون لتحرير أرضهم من الاحتلال.

هل يشعر الغرب بالعار؟

هناك جانب مهم في قصتنا هو أن الغرب -الذي يعتبر المقاومة في أوكرانيا بطولة ومجدا وشرفا وأن المقاومين أبطال يستحقون التكريم- يتجاهل المقاومين الفلسطينيين الذين قدموا نماذج إنسانية للبطولة والتضحية والشجاعة، وهم بالتأكيد يستحقون الإعجاب والتمجيد والتكريم.

شيرين امرأة فلسطينية حملت الكاميرا والقلم، وروت بصوتها العذب قصص بطولة الفلسطينيين، وشيرين بالتأكيد تستحق التكريم، ولكن كيف يمكن أن نكرمها؟ إن التكريم الحقيقي لها هو أن نبدأ مرحلة كفاح جديدة لتحرير الصحافة والإعلام من كل القيود، وأن نفتح المجال لتطوير صحافة الكفاح الوطني التي يمكن أن تروي للعالم قصص كفاح شعوبنا من أجل الحرية، وأن نقود شعوبنا بالمعرفة لبناء مستقبل يقوم على العدل والاستقلال والحرية.

ومن أهم أشكال التكريم لشيرين أن تعمل جامعاتنا لتأهيل ألف شيرين بالعلم، ليقمن بنقل الحقائق عن الأحداث التي ستغير العالم قريبا، ومن أهم تلك الأحداث ثورات الشعوب لانتزاع حريتها.

سليمان صالح

أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى