حوار مع النفس

الحرب الروسية الأوكرانية وسقوط ورقة التوت عن الغرب

د. أنور بنيعيش/ المغرب

يبدو أن من حسنات الحرب الروسية الأوكرانية إن كان للحرب حسنات أصلا، سقوط أقنعة الغرب، وانهيار أبراجهم العاجية حول الإعلاء من شأن حقوق الإنسان والسعي نحو السلام وتوفير الأجواء لحياة كريمة مريحة لكل سكان الكون؛ فبمجرد بداية هذه الحرب من طرف الدب الروسي حتى عم الارتباك وجوه زعماء أوروبا وعلت محياهم معالم الصدمة والمفاجأة؛ فلم يصدقوا أن دولة غير أوروبية ستتحداهم بهذه القوة والجرأة، وستحول القول إلى فعلٍ له تداعياته الخطيرة على أوروبا نفسها ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية؛ لهذا باشروا إلى ردود أفعال مغالية وغريبة في الآن نفسه، تظهر حزماً لكنها تخفي ضعفاً مبطناً وخوفاً رهيباً من الوصول إلى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة، وهم تحت تأثير الصدمة وضغط ارتقاب الآخر ممثلا في البلد المعني نفسه أوكرانيا وباقي العالم لما ستؤول إليه المواجهة.

وفي قراءة سريعة لهذه الردود، يتبين أن أمريكا وأوروبا، رغم الهالة التي أحيطت بهما كقوتين عسكريتين واقتصاديتين عظميين تقودان العالم، وتتحكم في مسار تحركات من فيه طوعاً أو كرهاً، أبانتا عن تخبط كبير في خطابها الذي ما فتئ يندد ويهدد تهديداً ناعماً بالعقوبات الاقتصادية المغلظة على روسيا مع بث رسائل طمأنة لها بأنهما وحلف الشمال الأطلسي لن يتدخل بشكل مباشر لمساعدة الحكومة الأوكرانية التي أحست بالعزلة أكثر مما شعرت بها روسيا موضوع العقوبات الاقتصادية والحصار الثقافي والعزلة الدولية المراد وضعها فيها. لقد خذلت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أوكرانيا وتركاها تعيش أزمتها وتعاني تبعات قرارات دفعت إليها وشجعت عليها لوحدها، فمن كانوا سبباً في وضعها المحرج تبرأوا من نصرتها المباشرة وجعلوا عدتهم للمؤازرة والدعم خطابات جوفاء ومزيداً من العقوبات الاقتصادية التي كانت روسيا مستعدة لها أتم الاستعداد قبل بداية الحرب وتعايشت معها تعايشاً طورت معه اقتصاداً مستقلا له من القدرة على الثبات والصمود ما يؤهله للاستمرار في النمو سواءً استمرت العلاقات مع الغرب أو انبتت حيث لدى روسيا البدائل متوفرة في دول صاعدة بقوة كالصين والهند وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا كبيلاروسيا وكازاخستان..

ثم إنه من ناحية أخرى، أبان الغرب عن ضعف كبير في التعامل مع أزمة الحرب، وتخبط في اتخاذ قرارات متسرعة تخندق العالم في خندق واحد، وكأن لا شيء يوجد خارج فضاء الغرب وتحت عباءته وقلنسوته الفضفاضة؛ فإما أن تكون أوروبي الهوى أمريكي النزعة أو لا تكون؛ فينتفي وجودك الرياضي وتختفي إسهاماتك العالمية في رمشة عين؛ ويتحول العالم فجأة في الرياضة والثقافة والاقتصاد والسياسة إلى كرة أرضية بدون أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وتمحى في لحظة قرون من الإبداع العالمي الراقي والإنتاج الفني المتميز الذي طالما أشاد به عقلاء العالم وأكاديميوه؛ فنصبح بقدرة قادر وقد فقدنا حضور تولستوي الراقي وشعر بوشكين ونصوص دويستوفسكي العميقة، لا لشيء إلا لأن أوروبا وأمريكا المهانتين والمجروحتين في كبريائهما تبحثنا عن سبل لإيلام روسيا والإضرار بها في كل المجالات دون أن تقدر على مواجهتها المباشرة؛ إنها ديكتاتورية الخوف كما عبر عنها “تودوروف” يوما ما مع اختلاف الموضوع والسياق وبقاء البنية نفسها التي تقوم على نظرة متعالية للعالم بررت بها يوما الاستعمار الهمجي والإقصاء المرير للشعوب الأصلية في بلدان كأمريكا وكندا، وتبرر بها الآن عقوبات متطرفة خارج الأطر الإنسانية وضداً على القوانين الدولية كسحب رئاسة بوتين الشرفية للاتحاد العالمي للجودو، وحرمان المنتخب الروسي من المشاركة في مختلف التظاهرات الرياضية العالمية في تحد سافرٍ للروح التي قامت عليها هذه المناسبة والأبعاد الفلسفية والأخلاقية التي قامت عليها من ربط أواصر السلام بين الشعوب وتشجيعها على التعارف والتقارب والاكتشاف ومشاركة الاهتمامات الموحدة، والمتعة البريئة التي تظهر الإمكانيات البشرية في أعلى مستوياتها؛ أي فلسفة تبقى في كأس العالم وغيرها من البطولات الدولية وفرق مرموقة وعريقة وأبطال ذوو كفاءات عالية في رياضات شهيرة كالجيمباز الإيقاعي والجودو والمصارعة وكرة السلة تستبعد لأسباب سياسية صرف؟؟؟ وأي تحديات وأي متعة سنستشعرها ونحن نتابع مباريات ومسابقات رياضية بدون فرق روسية تستكمل المشهد الرياضي العالمي بغض النظر عن كل الصراعات السياسية والعسكرية التي لم ولن تختفي من العالم شئنا أم أبينا؟  وأي حسرة ستملأ قلب البارون “دوكبيرتان” محيي الألعاب الأولمبية في العصر الحديث لو كان حياً وهو يرى الرياضة ملتبسة بالسياسة متأثرة بها وبصراعاتها الهوجاء؟ وكيف نتصور أن إقصاء لاعبين اجتهدوا لسنوات وسنوات وبذلوا قصارى جهودهم للوصول إلى هذه البطولات العالمية بمبررات لا تمت للرياضة بصلة؟ أليس هذا وما يحوم حوله أشبه ما يكون باستعمال دروع بشرية رياضية والتضحية بمستقبلهم وآمالهم للضغط على الدولة الروسية للتراجع عن الحرب؟ أي منطق يربط هذا بذاك؟ وأي داع أخلاقي يمنعه هنا ويبيحه هناك؟؟

وفي السياق نفسه، حاول الغرب عزل روسيا ماليا عن طريق حذفها من نظام سويفت العالمي رغم أنه في حاجة إلى بترولها وغازها وخيراتها الفلاحية، من منطق الهيمنة والأحقية في تحريك نظام ذا طابع كوني بغض النظر عن بدايته  تبعا لهوى ومصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا التي لا يمكن اعتبارها  تختزل العالم كله، وهذا ما يعتبر غير مقبول أخلاقيا ولا منطقياً ما دام يعزز صورة تحكم أقلية من الدول في أنظمة وضعت لتكون كونية ويسهم فيها الكل بحسب نصيبه وإمكاناته ومؤهلاته الاقتصادية والبشرية، ويجب أن تظل خارج دائرة الصراع والمزايدات التي يراد بها جعلها أوراق ضغط لإرغام الخصوم.

ثم في النهاية ماذا بعد ذلك؟ هل نمحو روسيا من التاريخ والجغرافيا والفن والأدب وننكر وجود دولة تمثل لوحدها ثلث مساحة الكرة الأرضية لأنها أغضبت الغرب ولم تنصع لهم، وتحدتهم بعد أن تلاعبوا بمصالحها وخرقوا معاهدات نزع الأسلحة النووية في مقابل التعهد بعدم توسيع حلف الشمال الأطلسي؟ هل ننساق في مواقف من صراع لا ناقة لنا فيه ولا جمل بعد أن غضننا الطرف عن صراعات واعتداءات اشتعلت فتائلها في ديارنا وحدائقنا الخلفية في العراق وفلسطين وليبيا وسوريا ومالي وغيرها… أظن أنه آن لنا أن نواجه الغرب ثقافيا وأخلاقيا ونحاوره ندا لند لنقول له نحن لسنا غرباً بالتبعية ولكننا شعوب مستقلة لها مواقفها التي تبلورها بناءً على قناعتها ومصالحها ولا ترضى أن تكون صدى للآخر المتعالي، وأن المركزية الغربية والقاطرة الثقافية والإنسانية ليستا سوى وهم مرجعي راكمته عقلية استعمارية لقيت عقلا مستعمراً مستلباً غير قادر على التفكير خارج الصندوق فعششت فيه وتلاعبت بقراراته تلاعب من يحتقر الآخرين ويعتبرهم قصراً لا يستبينون مصالحهم ولا مصالح من هم أوصياء عليهم. علينا أن نقول لهم: لقد شببنا عن الطوق وأضحى لنا وزن يخولنا اتخاذ قراراتنا لوحدنا بغض النظر عن طبيعتها أو مسارها، وبانفصال عن توجيهات قادة أوروبيين عاجزين وغاضبين ويحشدون القول والتهديد أكثر مما يحشدون الجيوش. وهذا بالفعل، ما قامت به بعد الدول التي نأت بأنفسها عن الصراع الروسي الغربي فامتنعت عن التصويت ضد قرار الإدانة أو غابت عن الاجتماع كنوع من بلورة موقف مشرف شجاع يواجه وهم المرجعية الغربية والحجر الأوروبي الأمريكي على قرارات ومواقف الآخرين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى