“ماكرون” و”الإسلاموية”.. مقاربة للفهم
“ماكرون” و”الإسلاموية”.. مقاربة للفهم
الكلام عن هوية أي بلد في العالم، من قبل أهله وأصحابه، سيكون من العبث، تصنيفه باعتباره “نشاطا ثقافيا”، من قبيل الترويح عن العقول وملء فراغ النخبة بـ”الثرثرة” في موضوع قد يثير جدلا ينعش العقول الكسولة. هوية أية أمة هي في واقع الحال “قضية أمن قومي”، وتقتضي الحصافة أن نتعامل معها بمسئولية تقدر خطورة التلاعب بها أو اتخاذها أداة في تصفية الخصومات والثارات السياسية والإيديولوجية بين الفرقاء في الوطن الواحد.
عندما تكلم الأمريكي “دانيال بايبس” أو الإيطالية “أوريانا فالاتشي” عن مستقبل أوروبا في ظل التمدد الإسلامي، كانا ـ بغض النظر عن دوافعهم الطائفية ـ يتكلمان في ملف يتجاوز في خطورته ـ”أمن العالم الغربي” إلى ما هو أكثر كارثية بالنسبة له هو : هويته ومستقبل وجوده من أصله. بايبس و”رالف بيتر” و”مايك ستاين” مفكرون أمريكيون، ولكنهم يعتبرون سقوط أوروبا في يد المسلمين، كارثة أمنية على أمريكا نفسها. سيما وأن ثمة وعيا بأن السقوط سيكون سلميا من خلال التغيير التراكمي لهوية أوروبا المسيحية، إذ يخشى الأمريكيون استنساخ نموذج “أسلمة الغرب” في بلادهم التي بات الإسلام النضالي والحضاري أحد أكبر همومها الداخلية.
هناك قلق حقيقي وهاجس بلغ مبلغ الهوس على هذه الهوية، يبدو واضحا في السيناريوهات المبالغ فيها من قبل المفكرين الغربيين بشأن مستقبل “الهوية المسيحية” لبلادهم، بلغت حد التحريض الصريح بإثارة الفزع بين الأوربيين نفسهم كما يفعل بايبس بتوقعه أن تخضع أوروبا لـ”الحكم الإسلامي”، أو إلى “ولاية إسلامية ” على حد تعبير “أوريانا فالاتشي”، أو تخويف المسلمين الغربيين من تعرضهم لعملية تطهير ديني واسع النطاق كما توقع “رالف بيتر” والذي يعتبر أوروبا “أفضل مكان للإبادة الجماعية والتطهير العرقي”، ويرى أن مسلمي أوروبا سوف يكونون “محظوظين إذا تم طردهم ولم يقتلوا”.
الغرب لا يمزح في مسألة “هويته المسيحية”، ليس من منطلق ديني محض، ولكن من قلق جاد على مستقبل القارة الأوربية وقدرتها على الحفاظ على خصوصيتها وتمايزها الحضاري والثقافي المهدد بالانقراض بل والاختفاء في المستقبل البعيد. هذا القلق، بدأ يتحول من مجرد آراء مثقفين، إلى أن بات حركة سياسية واجتماعية تعبر عن نفسها من خلال أحزاب سياسية، مثل الحزب “الوطني البريطاني”، وحزب “فالميس بيلانج” البلجيكي. في تصريحاته لصحيفة “صنداي تايمز” البريطانية في شتاء عام 2008، حذر الأسقف البريطاني الشهير “مايكل نذير” من أن “موقع كنيسة انجلترا يتآكل حاليا” وأعرب عن خشيته من أن ” ألا يبقى من الديانة المسيحية في نهاية المطاف سوى ذكراها”.
نذير هنا يختلف عن المثقفين والسياسيين الغربيين، فهو رجل دين يرى في اختفاء الكنائس اختفاء للمسيحية كدين، فيما يرى السياسيون والمثقفون الغربيون، أن اختفائها يعني اختفاء “هوية أوروبا المسيحية”، ولعل ذلك ما يفسر قلق المستشارة الألمانية “إنجيلا ميركل” من علو قباب المساجد على أبراج الكنائس، إذ اعتبرته “اعتداءا إسلاميا” على “هوية ألمانيا المسيحية” .. وكذلك يمكن فهم وتفسير قلق الفرنسيين ومخاوفهم في السياق ذاته.