التاريخ وبناء مجتمع الحكمة.. كيف توظف الدول تجاربها التاريخية لبناء المستقبل؟
دروس التاريخ تؤكد أن الظلم الناتج عن التقسيم الطبقي والاستغلال والعبودية الحديثة والجباية ونهب ثروات الشعوب هي أهم أسباب الدمار وانهيار الحضارات (رويترز)
البحث عن الحكمة أساس فلسفة التاريخ؛ فالحكمة تزيد قدرة الدول على إصدار أحكام صحيحة، واختيار بدائلها الأصلح والتي تساعد في تطورها وتنميتها، وتحديد الغايات والأهداف، والعمل بكفاءة لتحقيقها.
لذلك ترتبط الحكمة بالنضج، وهو مفهوم يعني أن التجارب التاريخية تراكمت، وشكّلت القدرة على بناء الرؤية الصحيحة والاستجابة للأحداث بالقرارات التي يتم قياسها على أعمال سابقة في التاريخ، ونتائج تلك الأعمال وأدى ذلك إلى تزايد الاهتمام بمفهوم الحكمة في العصر الحديث وعلاقتها بالثقافة وبناء المجتمعات والدول.
من التاريخ نستمد الحكمة
إن دروس التاريخ من أهم مصادر الحكمة، لذلك تزداد حكمة الأمة كلما تراكمت تجاربها التاريخية المتنوعة، وكلما تمكنت من زيادة الوعي بالتاريخ وتدريسه في المدارس والجامعات واستطاعت أن تطور مناهجها التعليمية بتحويل قصص التاريخ إلى مضمون جذاب ومؤثر يسهم في تأهيل القيادات لصنع القرارات الحكيمة.
لذلك يسهم التاريخ في بناء مستقبل الأمم عندما يتحول إلى فاعل في تأهيل الشخصيات القيادية التي تتمكن من بناء مجتمعات الحكمة واستثمار المعرفة وتوظيفها في التوصل إلى حلول جديدة للمشكلات وتحقيق التوازن بين المصالح وإنتاج الأفكار وتحفيز الشعوب لتحقيق أحلام عظيمة.
المخططات الرأسمالية الاستعمارية التي لا تهتم بقيمة الإنسان، وتعمل للتخلص من البشر لا تشكل حلا لهم، ولكنها تؤدي إلى تزايد الكراهية والحروب والإرهاب والدمار والخراب
مجتمعات ما بعد الرأسمالية
هناك العديد من الأسئلة التي تستوجب علينا الوقوف عندها وهي:
- لماذا يتزايد الاهتمام بمفهوم الحكمة؟
- ما علاقة هذا المفهوم بالمعرفة والتجارب التاريخية للدول؟
- هل تدريس التاريخ في المناهج التعليمية يسهم في بناء الشخصية التاريخية للدول في أذهان الناس؟
يجب أن نبحث عن تفسير أكثر عمقا لهذا الاهتمام؛ فقراءة الواقع توضح أن الجامعات ومراكز البحوث في الغرب بدأت في إدراك أن الرأسمالية تدفع المجتمعات بسرعة نحو الخراب والدمار، وأن الاستغلال الرأسمالي يمكن أن يؤدي إلى نهاية البشرية، لذلك تحتاج كل الدول إلى التفكير في بناء مجتمعات ما بعد الرأسمالية؛ وهذه المجتمعات تحتاج إلى الحكمة لاتخاذ قرارات تحقق العدل وتحمي الكرامة الإنسانية.
فدروس التاريخ تؤكد أن الظلم الناتج عن التقسيم الطبقي والاستغلال والعبودية الحديثة والجباية ونهب ثروات الشعوب هي أهم أسباب الدمار وانهيار الحضارات.
لذلك تحتاج المجتمعات الجديدة إلى الحكمة الناتجة عن الوعي بالخبرة التاريخية المتراكمة التي يمكن توظيفها في بناء منظومة مبادئ يمكن الاتفاق عليها من أهمها العدالة والحرية واحترام إرادة الشعوب، هذه المبادئ يمكن أن تحفظ تماسك المجتمعات وتوحدها، أما الظلم فإنه يؤدي إلى التفكك والحروب الأهلية.
العالم يحتاج إلى نوعية جديدة من المؤرخين الذين يطوّرون فلسفة التاريخ؛ فلا يقتصرون على عرض الأحداث التاريخية، لكنهم يفسرون هذه الأحداث، ويقومون باستنتاج الدروس والعبر والعوامل التي تؤدي إلى الانتصارات والهزائم والازدهار والانهيار والتعمير والتدمير
الحكمة وإدارة الأزمات
الدول أصبحت الآن تدرك أنها تواجه أزمات تحتاج إلى الحكمة في إدارتها والتعامل معها، هذه الأزمات تهدد وجود الدول والبشرية كلها. والمخططات الرأسمالية الاستعمارية التي لا تهتم بقيمة الإنسان وتعمل للتخلص من البشر لا تشكّل حلا لهم، ولكنها تؤدي إلى تزايد الكراهية والحروب والإرهاب والدمار والخراب.
كل الدول واجهت أزمات خلال تاريخها؛ فكيف تمكنت من الخروج منها وما الدروس التي استنتجتها من هذه الأزمات في زيادة كفاءتها وقدرة رجالها على اتخاذ القرارات الصحيحة؟
العالم كله أصبح في أشد الحاجة إلى بناء الحكمة الإنسانية الناتجة من دروس التاريخ لمواجهة الأزمات الناتجة عن استغلال الرأسمالية وتحالفها مع الاستبداد والفساد والنهب الاستعماري لثروات الشعوب؛ فهناك قدر من الاتفاق على أن العالم يشهد عملية تغيير واسعة.. ولكن كيف؟
إذا كان العالم يريد أن يواجه الأزمات التي تهدد وجوده، فإنه يجب أن يكافح لاستعادة الحكمة الإنسانية، ويعمل لبناء مجتمع الحكمة، ويوفر المعرفة بالتاريخ، ويؤهل قيادات جديدة تقرأ التاريخ بعمق وتستفيد من تجاربه في صنع قرارات صحيحة.
الترف وانهيار الدول
يحتاج العالم إلى نوعية جديدة من المؤرخين الذين يطوّرون فلسفة التاريخ؛ فلا يقتصرون على عرض الأحداث التاريخية، لكنهم يفسرون هذه الأحداث، ويقومون باستنتاج الدروس والعبر والعوامل التي تؤدي إلى الانتصارات والهزائم والازدهار والانهيار والتعمير والتدمير.
هناك حقيقة بدت واضحة بعد أن أثبتت الكثير من الأحداث صحتها؛ وهي أن الرأسمالية المادية والإسراف في الاستهلاك من أهم العوامل التي أدت إلى تزايد الأزمات النفسية والمجتمعية والعالمية التي أصبحت تهدد البشرية بالدمار.
في أثناء تحليله لتنامي النزعة الاستهلاكية في أغلب المجتمعات الحديثة في العقود الأخيرة، يبدأ عالم الاجتماع البولندي البارز زيجمونت باومان بالانطلاق من حقيقة بديهية، وهي أن جميع البشر مُستهلِكون بشكل فطري، وكانوا على مر الزمان مُستهلِكين بغرض إشباع حاجاتهم ورغباتهم، فليس اهتمامنا بالاستهلاك شيئا جديدا، فعملية الاستهلاك والإشباع سمات إنسانية طبيعية تسبق بالتأكيد ظهور الاقتصاد الرأسمالي الصناعي والتقنية الحديثة والأسواق الضخمة، إلا أنه يلفت انتباهنا إلى ظاهرة جديدة على التاريخ الإنساني بصفة عامة، لم يتصف بها النزوع الإنساني الاستهلاكي من قبل، وهي ظاهرة مُجتمع المُستهلِكين أو بتعبير آخر مجتمع السوق.
الجديد في هذه الظاهرة ليس في تزايد حجم الاستهلاك ذاته، فهو بشكل ما نشاط فردي يقوم به كل فرد طبقا لاحتياجاته حتى وإن كان يفعل ذلك وسط جماعة، إنما الجديد في ظاهرة مجتمع السوق -وهي ظاهرة تم رصدها خلال الـ30 عاما الأخيرة- هو ظهور الاستهلاك كمعيار على جودة الحياة وكدليل على الإقبال عليها.
ابن خلدون والترف ودروس التاريخ
من الأهمية الشديدة أن نتذكر بالفخر ابن خلدون ونقدمه للعالم كصاحب إنجاز حضاري في اكتشاف دروس التاريخ، ونتعلم منه فن استخلاص الحكمة من التاريخ؛ حيث يرى أن الترف هو أهم العوامل التي تؤدي إلى انهيار الدول، فهل يمكن أن تشكل هذه الحكمة رؤية جديدة لبناء عالم جديد أكثر عدلا؟!
لقد ارتبط الترف في هذا العصر بالظلم والتفرقة العنصرية والتقسيم الطبقي ونهب ثروات الشعوب وإفقارها؛ لكي تتمتع نخبة قليلة بكل أسباب الحياة المترفة والإغراق في المتعة وإشباع الشهوات دون ضوابط أخلاقية، وفي الوقت نفسه افتقدت تلك النخب المترفة الحكمة والقدرة على البحث عن معنى الحياة.
يقول ابن خلدون: “يكثر خراج السلطان خصوصًا كثرة بالغة بنفقته في خاصته، وكثرة عطائه، ولا تفي بذلك الجباية، فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء، والسلطان من النفقة، فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية، ويدرك الدولة الهرم، وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية، فتقل الجباية وتكثر العوائد، ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم. فيستحدث صاحب الدولة أنواعًا من الجباية يضربها على البيعات، ويفوض لها قدرًا معلومًا على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة، فتكسد الأسواق لفساد الأموال، ويؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل”.
الاستكبار الاستعماري على الدول الفقيرة
دفعت النخبة المترفة في أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين جيوش الدول الأوروبية إلى نهب ثروات الدول التي استعمرتها، وعلى سبيل المثال قامت فرنسا بإعادة بناء باريس وإنشاء القصور الباذخة بالثروات التي نهبتها من الجزائر ولذلك قامت بقتل الملايين في الجزائر وأفريقيا، وهذا يشكل جريمة ضد الإنسانية والحضارة.
وما زالت النخبة المترفة التي تحولت إلى شركات عابرة للقارات تدفع الدول الغربية لشن عدوانها على الدول لنهب خيرات الشعوب وإفقارها، ويعتبر العدوان الأميركي على أفغانستان والعراق نموذجا لعمليات النهب المنظم لثروات الشعوب باستخدام القوة الغاشمة لإبادة الشعوب وقهرها. وهذه الجرائم أدت لتزايد الكراهية والرغبة في الانتقام، وأصبحت تهدد وجود البشرية كلها.
التاريخ يوضح لنا أن الترف يرتبط بالظلم والاستغلال والعدوان والنهب والقتل والإبادة، كما يرتبط بالاستعلاء والاستكبار على الدول الفقيرة والتعامل معها باحتقار، هذا ينطبق أيضا على النخب الحاكمة في الدول؛ حيث ينظر الأثرياء إلى الفقراء كعبيد وخدم ويحتقرون آلامهم، ويستخدمون القوة الغاشمة ضدهم.
توضح دراسة الواقع أن النخب الحاكمة في الكثير من الدول تفتقد الحكمة التي تجعلها تحقق التوازن الذي يمكن أن يحفظ وحدة المجتمع، ولا يدفع مكونات المجتمع إلى الحرب الأهلية؛ حيث أدى غرق المستبدين والمنافقين -الذين يدافعون عنهم ويحمونهم- في الترف إلى زيادة الكراهية في المجتمعات والشعور بالسخط، وهذا لا يهدد وجود النخبة وحدها، بل يهدد المجتمعات والدول كلها.
افتقاد الحكمة وعدم قراءة التجارب التاريخية بعمق من أهم العوامل التي صنعت الأزمات العالمية وأصبحت تهدد وجود الدول ويمكن أن تؤدي خلال المستقبل القريب إلى انهيارها
واقع أليم يحتاج إلى تغيير
من أهم دروس التاريخ أن الترف يرتبط بالفساد، لذلك يقوم المترفون بنهب المال العالم للتمتع به وإشباع رغباتهم في الاستهلاك والتفاخر والتعالي والاستكبار على الناس والمبالغة في مظاهر البذخ والإنفاق السفيه وإقامة الحفلات التي تزيد تكاليفها عما يحتاجه ملايين الفقراء في الحصول على ضروريات الحياة التي يمكن أن تحفظ الكرامة الإنسانية.
وهذا يعني أن افتقاد الحكمة وعدم قراءة التجارب التاريخية بعمق من أهم العوامل التي صنعت الأزمات التي يعيش فيها العالم والتي أصبحت تهدد وجوده، ويمكن أن تؤدي خلال المستقبل القريب إلى انهيار الدول وخرابها.
لذلك فإن الدعوة إلى بناء مجتمع الحكمة الذي يقوم على الوعي بالتجارب التاريخية واستخدامها في ترشيد عملية صنع القرار وتحقيق التغيير الشامل، تأتي في ضوء دراسة الواقع الذي يزداد قبحه كلما تزايدت شراسة الرأسمالية وشرهها في نهب ثروات الشعوب، وكلما تزايد استخدام المستبدين للقوة الغاشمة في قهر الشعوب، وكلما تزايد استعلاء النخب، واستكبارها على الفقراء.
إنقاذ الحضارة الإنسانية يحتاج إلى الحكمة والبحث عن حلول جديدة باستقراء التجارب التاريخية والاتفاق على منظومة مبادئ وأخلاقيات تحفظ الكرامة الإنسانية وتحرر الشعوب من الفقر والقهر
الإسلام والبحث عن حلول حكيمة
إن بناء مجتمع الحكمة يهدف إلى البحث عن حلول إنسانية رشيدة صحيحة وأخلاقية للكثير من الأزمات، فالمشكلات المعقدة تحتاج إلى حلول إبداعية وأفكار جديدة، ومن أهم تلك المشكلات تزايد الكراهية والحقد والسخط الناتجة عن شعور الفقراء بأن الرأسمالية نهبت ثرواتهم، وتركتهم يئنون تحت وطأة الفقر والقهر واليأس والإحباط فأصبحوا يتمنون الموت، لكن الموت الكريم يمكن أن يكون في ميادين الكفاح والمقاومة والدفاع عن الحقوق الإنسانية، فالموت دفاعا عن الدين والمبادئ والكرامة والأرض والعرض شهادة وبطولة.
لذلك فإن إنقاذ الدول والحضارة الإنسانية يحتاج إلى الحكمة والبحث عن حلول جديدة باستقراء التجارب التاريخية والاتفاق على منظومة مبادئ وأخلاقيات تحفظ الكرامة الإنسانية وتحرر الشعوب من الفقر والقهر.
من أخطر العقبات التي تحول دون بناء مجتمع الحكمة تجاهل الإسلام وحضارته وتاريخه فهو مصدر الحكمة، فالقرآن يقدم لنا قصص الأنبياء التي تشكل ثروة معرفية وتوفر لنا الدروس والعبر التي يمكن أن تزيد حكمة الإنسان وتجعله قادرا على اتخاذ قراراته في ضوء ما يؤمن به من مبادئ.
كما أن الإسلام هو الذي يجعل ضمير الإنسان يتوهج فيضيء الطريق للفرد ليعيش حياة لها معنى تقوم على الكفاح لتحقيق الإصلاح والعدل.
الإسلام يوضح لنا أن الدول تقوم على العدل وتنهار عندما تستخدم القوة الغاشمة في قهر الشعوب، حيث يقدم لنا القرآن قصة فرعون كنموذج للطاغية الذي استخدم قوته الغاشمة وبذلك يوضح لنا عاقبة الاستكبار والطغيان، فالفرعنة تؤدي إلى الهلاك والدمار والخراب.
القرآن يوضح لنا أيضًا أننا يجب أن نقرأ التاريخ ونفهم دروسه لنتجنب مصير الأمم التي أهلكها الله بطغيانها، كما يوضح لنا أن الشعوب التي ترتضي العبودية وتستسلم لها لا تستطيع أن تحقق نصرا ولا مجدا، فلا يستحق السيادة والعز إلا من يثور ضد الطغيان ويرفض العبودية ويقاوم الاستعمار والاستبداد، ويدافع عن دينه وحريته وحقوقه.
الحكماء يحرسون الحق
الدول التي تريد الحياة والاستمرار يجب أن تبحث عن الحكمة في تاريخها وتوظف تجاربها التاريخية في تحقيق الاتفاق بين شعبها على منظومة من المبادئ والقيم والأخلاقيات التي يحرسها الحكماء ويقومون بتطبيقها، أما القوة الغاشمة فيستخدمها الجهلاء في إخضاع الشعوب زمنا بحجة الاستقرار وعدم وجود البديل حتى تنهار الدول. ربما تكون تلك هي أهم دروس التاريخ التي يجب أن يستوعبها الراشدون الحكماء الذين يقودون حركة التغيير ويبنون مجتمعات تقوم على العدل والرشد والحكمة وينقذون البشرية من مصير غامض ومظلم.
الحكمة التي تقوم على قراءة صحيحة لدروس التاريخ وعبره، يمكن أن تسهم في إنقاذ البشرية وبناء دول قادرة على الحياة بتطبيق العدل، لذلك يجب أن تختار الشعوب قيادات تتميز بالوعي بالتاريخ، وتستطيع صنع قرارات صحيحة في ضوء تجاربه.
من المؤكد أن تاريخ الإسلام يشكل لنا ثروة معرفية يمكن أن نقيم بها مجتمع الحكمة.