[تقرير] محمد لطفي يبني في غياهب السجن مملكة ’’السلاطين المجهولين‘‘
أطلق محمد لطفي قبل 33 عاما مبادرة سباقة تهدف إلى إعادة تأهيل السجناء، ولكن على طريقة الفنان المرهف والمبدع. وكانت فكرته أن يصطحب إلى سجن بوردو (Prison de Bordeaux) في مدينة مونتريال نجوم المجتمع والمشاهير في السياسة والإعلام والفنون كافة لكي يلتقوا نزلاءه ويتبادلوا معهم الأحاديث، في أجواء تسقط فيها الأحكام المسبقة والطبقات الاجتماعية، ويتساوى من أُقصوا عن المجتمع، القابعون وراء القضبان، مع شخصيات المجتمع المرموقة.
حوّل الإعلامي والسينمائي والفنان التشكيلي الكندي المغربي محمد لطفي الزنزانة المظلمة إلى مملكة يشرق فيها النور ويرأسها ’’سلاطين مجهولون‘‘.
(Souverains Anonymes) هو أيضا عنوان المبادرة والبرنامج الإذاعي الذي أطلقه قبل أكثر من ثلاثة عقود، ومع مرور الوقت اتخذ طابعا أكثر شمولية ليسخّر محمد لطفي كل التقنيات الحديثة في السمعي البصري من أجل انتشار أكبر ووقع أشمل لذلك البرنامج المتعدد الوسائط الذي كان يستنفد كل طاقاته وجهوده في دوام عمل كامل. علما أن هذه المبادرة لا تزال مستمرة ولكن بوتيرة متقطعة.
ما كان مستحيلا في الماضي أمسى واقعا لأن الزمن يتغير
في العام 1906 من القرن الماضي، كانت فكرة إنشاء مبادرة مماثلة في سجن بوردو مستهجنة، ولم ترَ النور يومها ’’لأن المجرم الذي استحق القصاص، لا يمكن أن يستحق هذه النافذة المشرّعة على الحرية‘‘.
ولكن الفكرة ستكون أكثر قبولا عندما يتقدم بها الشاب محمد لطفي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأكثر من ذلك، ستبارك الحكومات والأحزاب مبادرته وتموّلها عبر مسيرتها الطويلة. وبعدما حددت مدة تجريبية أقصاها ستة شهور، جدد العقد واستمر البرنامج إلى يومنا هذا.
يستحيل على محمد لطفي التقاعد أو الاعتزال، وكأن كتب له القدر أن يرتبط بالـ ’’السلاطين المجهولين‘‘ إلى ما لا نهاية. يقول المتحدث: ’’أذكر أن السجناء لشدة تعلقهم بالبرنامج، رفضوا أن يتوقف بعد انتهاء المدة، وقاموا بتوقيع عريضة يطالبون فيها باستمراره لأنه ’’أمسى بالنسبة إليهم فجر الحرية الذي يتوقون إليه ويستمدون منه غاية وجودهم واستمرارهم في هذه الحياة‘‘.
السر يكمن في ملء الدفء والحب الذي غمر محمد لطفي في عهد الطفولة
في منزله المتواضع في أحد أحياء مونتريال، تركني محمد لطفي أمام شاشة التلفزيون ريثما يقوم هو بإعداد الشاي في مطبخه.
على الشاشة الفضية، تتالت في مقطع فيديو شهادات عدد من ’’السلاطين المجهولين‘‘ من جنسيات عدة بينهم كندي تونسي، قام محمد لطفي بتسجيلها قبل يومين داخل سجن بوردو.
كلام مفعم بالمحبة الصادقة والتقدير والامتنان للقسم العربي لراديو كندا الدولي على ’’هذه الالتفاتة من أجل التعريف بالسلاطين المجهولين في غياهب السجن وبصاحب المبادرة محمد لطفي‘‘.
شعور بالدفء غمرني عند الاستماع إلى تلك الكلمات وأكثر من ذلك شعرت بأنني بين أشخاص أعرفهم حق المعرفة. لقد قصّر محمد لطفي بهذا التسجيل المسافة كثيرا بيني وبين نزلاء بوردو، ووصل إلي ربما الإحساس ذاته الذي قد يشعر به كل من التقى هؤلاء المساجين في الماضي. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: النجمة العالمية سيلين ديون، وزير العدل والأمن القومي السابق في حكومة كيبيك سيرج مينار، حاكمة كندا العامة السابقة ميكاييل جان وغيرهم من الشخصيات، حيث سقطت بينهم وبين نزلاء سجن بوردو كل الحواجز والاعتبارات ليشعر السجين بأنه سلطان ينعم بكامل الحرية.
ليس هناك ما هو أكثر فخرا من أن تكون حراً وراء قضبان السجن. لعل أكثر ما أسعدني في مسيرتي المهنية هو أنني كنت حرا داخل جدران السجن.