إستراتيجية بايدن والخيارات الصعبة
تدرك الولايات المتحدة جيداً أن حدود الأزمة الروسية الغربية الحالية لن تتوقف عن انتهاء الحرب، أو المواجهات الدائرة بتوقيع اتفاق، أو التوصل لخطة لوضع ترتيبات أمنية دائمة أو مؤقتة. وربما يكون مرتبطاً بما هو قادم من تطورات عميقة كشفت عنها الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي أعلنها الرئيس جو بايدن، وحدد فيها أولويات الإدارة في الفترة المقبلة، وما سيرتبط بالفعل في التعامل مع بنية النظام الدولي الراهن، وما سوف تنتهي إليه الأوضاع في الفترة المقبلة خاصة مع رؤية الإدارة الأميركية أنها ستكون أمام ظواهر مستجدة ومرتبطة، بما هو قادم من تحولات عميقة تتطلب إعادة ترتيب الأولويات، والمهام الكبرى في العالم، ما يتطلب إعادة ترتيب الخيارات الأمنية والسياسية في آن، مع بناء تحالفات مستجدة مع بريطانيا وأستراليا واليابان ودول الكاريبي، وبلدان أميركيا اللاتينية إضافة إلي الهند وإسرائيل وبلدان الخليج.
وإعادة ترتيب الأولويات ستفرض على الإدارة الأميركية فك وتركيب التحالفات الراهنة، وبناء شراكات جديدة اتضحت جليا في بنود الإستراتيجية الأميركية مؤخراً، وإعادة النظر في إطار شراكة الحلفاء خاصة وأن دول الشراكة الأميركية العربية باتت تتحرك في دوائر محددة منها ما هو معلن، مثلما جرى في زيارة صاحب الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات إلى روسيا بنتائجها والمهمة، والتي ستفرز نتائج كبيرة، ومنها غير المعلن في ظل تحركات دول مهمة في الإقليم، في إطار انفتاح أكبر على المنظومة الإقليمية والدولية، وهو ما سيزعج الولايات المتحدة في الفترة المقبلة.
السياسات الأميركية منذ فترة الرئيس ترامب، ثم في عهد الرئيس جو بايدن أدت لنتائج سلبية على المنظومة الراهنة لنماذج العلاقات المشتركة مع الإدارة الأميركية خاصة حيث باتت الولايات المتحدة في مأزق حقيقي منذ الانسحاب الكبير من أفغانستان، ومروراً بالارتباك والتردد في إدارة ملفات مهمة، ومنها مع الحلفاء مثلما جرى في نطاقات شرق المتوسط، أو مع دول «الناتو»، إضافة للخروج التدريجي من الشرق الأوسط في رسالة مهمة بأنها تعمل في اتجاه الحفاظ على نمط علاقات أكبر مع دول جنوب شرق آسيا، ومع الحلفاء من نوعية اليابان والهند في مواجهة روسيا والصين.
ويبدو أن مقاربة أمنية جديدة تقوم على فكرة المصالح الأولي الحاكمة، تفرض معادلة حقيقية في التعامل، وبناء شبكة العلاقات دون التورط المباشر في حل وتحليل الصراعات الراهنة، منها ما هو ساكن منذ سنوات طويلة، ومنها ما هو قيد التشكل ويحتاج إلي تدخل أميركي دون دفع تكلفة عالية.
صحيح أن واشنطن وفرت ال112 مليار دولار لأوكرانيا لدعم قدراتها الداخلية في مجال المواجهة مع روسيا لكنها ما تزال تتحفظ على نمط المطالب الكبرى للجانب الأوكراني لدعم قدراته تخوفا من رد فعل روسي قوي ومباشر في حال الاستمرار في دعم القدرات الأوكرانية سواء من دول حلف «الناتو»، أو من الولايات المتحدة، مما قد يمثل خروجاً عن الخط الأحمر الذي فرضته المواجهات الراهنة بين روسيا والغرب، خاصة وأن المواجهة المحتملة لن تكون تقليدية، مع توقع اتساع مسرح العمليات في حال تمددت المواجهات إلي مسرح عمليات آخر، وهنا مكمن الخطورة الكبرى في أن الولايات المتحدة ستواجه سيناريو صراعات ثنائية ومتعددة، بل وقد تصل إلى مواجهات الكل ضد الكل من دون استثناء، وهو ما سيعطي الدلالات الكبرى على أن هذه الإدارة ستواجه مصيرها الكبير في مواجهة خيارات قد تبدو صفرية بالفعل، ما لم يحدث تواصل مع روسيا، وحلف الناتو على أرضية المصالح المشتركة، وقاعدة الرابح/ الرابح وليس الرابح/ الخاسر.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية