[تقرير] ’’مركز التشاور النسائي‘‘ يبتكر أسلوباً سباقاً ومباشراً في مخاطبة الأم
وجد ’’مركز التشاور النسائي‘‘ (Concertation -Femme) أن أفضل الأمكنة للقاء الأم مع صغارها هو الحديقة العامة. في هذا المكان الرحب ’’هناك وقت لي ووقت لطفلي‘‘، كما تقول الدعاية الترويجية لهذه المبادرة. من جهة، يلهو الطفل ويمرح بالألعاب المتوفرة في الهواء الطلق، ومن جهة ثانية تستطيع والدته أن تعير آذانا صاغية لنصيحة أو رسالة أو إجابة على سؤال يحيرها متعلق بتربيته أو بأي شأن آخر من شؤونها واهتماماتها. اختار المركز النسائي أن يأتي هو إليها عوض أن تذهب هي إلى مقّره، وفي ذلك أهداف وغايات فضلى نتعرف عليها مع مديرة المركز السيدة ميسون فاعوري والمسؤولة عن الشأن التربوي ودار الحضانة في المركز السيدة رجاء أبو عاصي. وقد حاورت أيضا بالأمس في حديقة مارسولين ويلسون (Marcelin-Wilson) عددا من الأمهات، وأخذت رأيهن في ما يمكن أن يوفره نشاط اجتماعي من هذا النوع لهن ولأطفالهن.
أثرت جائحة كوفيد-19 على مدى عامين على وتيرة تدفق النساء إلى ’’مركز التشاور النسائي‘‘، وبدأ التشاور بين عضوات المركز لإيجاد وسيلة ناجعة تُعرف النساء من جديد على الطريق إلى مقر المركز وخدماته وأنشطته. من هنا أتت فكرة الذهاب إلى أكثر الأمكنة التي يمكن أن تتواجد فيها المرأة مع طفلها، وهي الحديقة العامة. اختار المركز حديقتين في مونتريال لا تبعدان عن مقره، ويُنظم في كل منهما لقاء واحدا في الأسبوع اعتبارا من السادسة مساء، وفي حال كان الطقس ماطرا، يُرجأ اللقاء إلى يوم آخر.
النشاط اجتماعي ترفيهي بظاهره…
نصطحب معنا إلى الحديقة طاولة وكراسي وبالونات وبعض اللافتات التي تحمل معلومات قيمة عن أنشطة أو ندوات أو ورشات عمل آجلة يُعد لها ’’مركز التشاور النسائي‘‘. والأهم أننا نحمل معنا أكثر ما يمكن أن يجذب الطفل ويشد انتباهه: هدايا تثقيفية وترفيهية هادفة، توزع على مجموع الأطفال المتواجدين في الحديقة. تبرر هذه الوسيلة غاية فضلى وهي شدّ انتباه الأم، وهي هدفنا الأول والأخير.
تجد المتحدثة أن الجائحة أفسدت نوعا ما العلاقة بين المرأة وفضائها الخارجي، بمعنى أنها زادت لديها العزلة وملازمة المنزل والانطواء على الذات. ’’لذا كان لا بد من كسر هذا الحاجز بيننا وبين المرأة، تقول ميسون فاعوري، وإذا كانت هي توقفت عن طرق بابنا فلما لا نأتي نحن إليها؟‘‘ وتؤكد فاعوري بأنه أمكن تحقيق الغاية من هذا النشاط الاجتماعي الترفيهي للأطفال بظاهره، الهادف إلى تحقيق التقارب الفعلي من الأم بباطنه. هذه الأخيرة يمكنها أن تطلب المشورة من الأخصائيات في المركز في كل ما تحتار فيه في أمور الحياة والعمل والعائلة وتربية الأطفال.
في الحديقة العامة يتجمهر الأطفال حول الهدايا، تبهرهم أشكالها وألوانها. ينتظر كل منهم دوره لعل القرعة ترسو على اسمه، ويلمع في عيونهم بريق الأمل والتفاؤل. في هذا الوقت تنشغل العضوات في المركز النسائي في التحدث إلى الأمهات والإصغاء إليهن. كل يقوم بدوره على أكمل وجه بطريقة متناغمة ومنسجمة وسط هواء عليل، في هذا المساء من أيلول، الذي يلفح الوجوه المطمئنة الهادئة في أجواء الفة ومودة ومحبة تشيع في المكان. في هذه الحديقة، تعلو أصوات الأطفال الذين يلهون على المراجيح وكل الألعاب التي يحتاجها نمو متكامل بعيد عن الألعاب والمنصات والشاشات الإلكترونية.
الرابط الانساني يُفعل المشاركة ويُغنيها
بعد موسم صيفي كامل أمضيته معهم، تولد لدي شعور التعلق بهم كأنهم أحد أفراد أسرتي. تسلم عليّ الأمهات ويلقين علي التحية بكل المودة والمحبة وكأن المعرفة بيننا تعود إلى زمن بعيد، وكذلك يعانقني الأطفال بكل الدفء والحرارة. نشأت علاقة جميلة بيني وبين كل زوار الحديقة وهي لا شك ستتبلور وتنمو أكثر فأكثر[…] لقد نجحنا في بناء علاقة إنسانية وطيدة، ومثلما نمدهم نحن بالنصح والمشورة، يمدوننا هم بالطاقة الإيجابية المحفزة على الاستمرار في العطاء.
تضيف المتحدثة: ’’عندما نأتي إلى الحديقة العامة، نحمل معنا خبرتنا وعلومنا ونضعها في تصرف الأم الكيبيكية التي تقطن في هذا الحي. في البداية أتت بضعة نساء ولكن كان العدد يرتفع من أسبوع إلى آخر.‘‘
بدأ ’’مركز التشارو النسائي‘‘ بهذا النشاط منذ شهر أيار / مايو الماضي، وهو يزمع أن يستمر فيه لغاية منتصف شهر تشرين الأول / أكتوبر. عندها يكون أكبر عدد من النساء بات يعرف عن وجود هذا المركز وأنشطته وخدماته المجانية مائة بالمائة، يتوجهن حينها مباشرة إلى مقر المركز.
’’مركز التشاور النسائي‘‘ في خدمة من تشكل نصف المجتمع
تسرد ميسون فاعوري التي تتولى إدارة ’’مركز التشاور النسائي‘‘ منذ 32 عاما -علما أنه مضى على تأسيسه قرابة الـ 40 عاما- أن المركز يقع في منطقة تسكنها غالبية من المهاجرين وبشكل خاص المهاجرين العرب. ولعل نصف الذين يترددون على المركز هم من نساء الجاليات العربية في مونتريال. كذلك تقع هذه الحديقة العامة في حي سان لوران الذي تقطنه بكثافة عائلات مهاجرة من أصول عربية. وتلك الليلة كانت غالبية النساء ممن التقيتهن ينحدرن من أصول عربية.
تعرفت على هذا المركز عند قدومي إلى مونتريال من سوريا في العام 2016، وقد قصدت يومها المركز لتعلم اللغة الفرنسية. بعد وقت قليل، عرضت عليّ إدارة المركز أن أعمل كمربية للأطفال في دار الحضانة التابعة له. وهكذا فتح لي المركز الباب على مصراعيه لتحقيق الخبرة الكندية والاندماج الفاعل والمتكامل في مجتمعي الجديد […] انتقلت بعدها للعمل في دور حضانة في الخارج ولم تصادفني أية مشكلة، لأن المركز النسائي يزودنا بالأدوات التي نحتاجها للتأقلم السريع في المجتمع الكيبيكي.
تؤكد المتحدثة على المعين الذي لا ينضب لدى المركز النسائي لناحية الابتكار والمبادرات السبّاقة. وتعتبر أن مبادرة اليوم في الحدائق العامة تعيد اللحمة بين أبناء المجتمع الواحد بعدما باعدت بينهم ظروف الجائحة. وتوصف عجمية مقدار السرور الذي يصيب قلوب أطفالها الثلاثة في كل مرة يأتون فيها إلى هذه الحديقة في الموعد الذي يحدده المركز مسبقا ويعلمهم به. ’’إن أطفالي هم الذين يلّحون عليّ باصطحباهم إلى الحديقة في كل مرة‘‘، تقول هذه المتحدثة.
القصة مماثلة بالنسبة إلى رجاء أبو عاصي صاحبة الاختصاص في الهندسة المعمارية، فهي أيضا حين هاجرت إلى مونتريال من سوريا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، قصدت خدمة الحضانة في المركز لتسجيل ابنتها، فطلبت منها مديرة المركز أن تنضم إلى الفريق العامل في الحضانة ريثما تجد عملا في اختصاصها. ولكن إلى اليوم لا زالت تعمل في المجال التربوي بعد ما جذبها عالم الأطفال. وهي انضوت ايضا في الصروح الجامعية والأكاديمية بغية الاستفاضة في معرفة ذلك العالم وكيفية التعامل مع أفراده. ’’التخصص الأكاديمي منحني دراية أكبر باحتياجات الطفل ومكنني من التعامل معه في شكل أفضل. لقد أيقنت بعد وقت قصير من انضمامي إلى أسرة ’’مركز التشاور النسائي‘‘ بانني مولعة بعالم الطفولة وغاية سروري عندما يحيط بي الأطفال من كل صوب ويمنحوني دفئهم ومحبتهم الصادقة‘‘.
تضيف المتحدثة أنها بلا شك أفادت ايضا في عملها في المركز من خبرتها ودراستها في الهندسة المعمارية، ’’إن من يريد أن يعمل في هذا المركز عليه أن يكون متعدد المواهب‘‘، تقول أبو عاصي.
لعل المميز والخاص في عملي في هذا المركز الذي تتردد عليه النساء من المهاجرات العربيات، أنني أشكل صلة الوصل بينهن وبين المجتمع الكيبيكي. وقد أسهل عملية اندماجهن وتأقلمهن، بما أنني مهاجرة عربية الأصل، فإنني أستطيع أن أنقل إليهن الرسالة بطريقة مباشرة وسريعة. لا يعصى عليهن فهم مقاصدي خصوصا أننا ننتمي إلى التراث الثقافي والحضاري ذاته. من هذا المنطلق أستطيع أن أنقل لهن ما يمكن الاحتفاظ به من إرثنا الشرق أوسطي وما يمكن أن نأخذه ونتعلمه من الإرث الكندي في القيم والتقاليد والعيش.
’’سأحتاج آجلا إلى طرق باب مركز التشاور النسائي‘‘
سميرة مقداس التي قدمت إلى مونتريال من الجزائر عام 2011 لم تكن تعلم بوجود هذا المركز النسائي من قبل. وقد سمعت عن النشاط الذي ينظم في الحديقة العامة من إحدى الصديقات، لتواظب منذ بداية الصيف على اصطحاب أطفالها للمشاركة فيه.
لا تعمل هذه المتحدثة ولكنها تفكر في ولوج سوق العمل بعدما يكبر أطفالها، وهي ستحتاج في ذلك الحين إلى مشورة المركز النسائي كما تقول.
’’يمقت الأطفال الضعف عند والدتهم والنوح والنحيب‘‘
تلخص ميسون فاعوري المشاعر المختلفة التي تجتاح المرأة العربية المهاجرة في الإجمال منذ أن تطأ قدماها هذه البلاد.
في الأيام الأولى على وصولها إلى مونتريال، تعيش المرأة العربية المهاجرة في ثوب السائحة، تنبهر بكل ما تراه لتدرك بعد حين أنها ليست سائحة وأن إقامتها ستطول. فتدخل هنا في حالة حداد وحزن وتبدأ بطرح الأسئلة عما تفعله هنا ولما اختارت أن تعيش بعيدا من وطنها وأهلها واحبتها. هناك بعض من النساء ممن تطول عندهن هذه الحالة ومنهن من لا يستطعن أن يخرجن منها بتاتا. وهنا الخطورة، حسب المتحدثة، لأن هذه الحالة في حال تخطت السنة أو السنتين، ’’تُدخل صاحبتها في الكآبة وتعيش جسدا من دون روح‘‘. هذا الأمر ينجم عنه فيما بعد هوة تزيد الشرخ بينها وبين أبنائها.
كلما واجهت المرأة المهاجرة، التي اختارت أن تعيش السلبية، فشلا في مجتمعها الجديد، كلما لجأت إلى الانعزال والاستسلام لحنين الماضي والبكاء على الأطلال. بينما أنه من الأجدر بها أن تكون بكامل فرحها ولديها طاقة إيجابية، مما يجعلها نموذجا يحتذى به في عيني طفلها. هذا الأخير لا يحب أن يرى أمه ضعيفة، هو يحزن عليها في البداية ولكن فيما بعد يهملها وقد يصل به الأمر إلى احتقارها.
تضيف المتحدثة: ’’إلى كل امرأة تفتقد إلى ثقتها بنفسها وكفائتها في أنها يمكن أن تواكب أولادها في نموهم العقلي الفكري، أقول لها: إن هناك استشاريين واختصاصيين في كل مكان ومن كل شكل ولون في هذا المجتمع وهم ينتظرون أن تطلبي منهم المساعدة. هناك في مركزنا نخبة من هؤلاء الخبراء الذين يوفرون النصيحة مجانا ولا يتطلب منك الأمر سوى أن تطرقي باب المركز وتجرُئي على طلب المساعدة‘‘.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)