[تقرير] هدى عدرا حكواتية تشفي بكلمتها النفوس وتُحرّر الأجساد من أغلالِها
قدّم مركز الفنون المتعدد الثقافات في مونتريال (نافذة جديدة) ’’ابنة الكلمة‘‘ هدى عدرا في عرض غير مسبوق أشبه بسيرة ذاتية.
استخدمت هدى عدرا المجاز والرموز في قصّ حكايتها، خصوصا لأنها لا تزال حبيسة الخوف والرقابة التي تصفها بأنها ’’عنف مورس بحقها‘‘. حتى عندما وصلت إلى بلد الحرية كندا، فإنها لم تستطع هذه الفنانة أن تحرر جسدها وصوتها، واقتضى الخروج من ’’الصدمة‘‘ أو الشرنقة خمسة عشر عاما، هو تاريخ وجودها في المدينة الكوسموبوليتية.
جسدي كان مغطى بقماش أسود طيلة أول سبعة عشر عاما في روزنامة عمري، فُرض علي هذا اللباس، وظننت أنه القاعدة، لذا وجدتني غير قادرة على تحرير جسدي[…] وكان يجب المرور بالصراع والمواجهة مع الأشباح التي تسكنني، لأتوصل في النهاية إلى تحقيق المصالحة بين شبح الروح والجسد.
تأخذنا هدى عدرا (نافذة جديدة) في مسرحها إلى بلاد أطلقت عليها اسم ’’برومانيا‘‘، وبالفرنسية تعني الكلمة ’’بلد الضباب‘‘. يصيب الضباب نصف المجتمع الذي تمثله المرأة، وتتجمع بسببه الأمطار في حلق النساء مشكلة كرة ضخمة تنّغص عليهن عيشهن. لا تستطيع هواتي النسوة التخلص من الكرة في حلوقهن، وعليهن التعايش معها، لأنه بخروج هذه الكرة الزهرية اللون (لأنها خاصة بالنساء فقط) من الحلق، ستنهمر أمطار غزيرة ويحدث الطوفان الذي يغرق الأرض.
تقول هدى عدرا ’’إن برومانيا، La Brumanie، موجودة في حياة كل واحد منا، وعلى الجمهور أن يفك الرموز في مسرحي ويقرأها ويفسرها كما يحلو له. أنا لا أقول ما هو هذا البلد بالتحديد وأترك لخيال الجمهور أن يسرح به‘‘.
كل شخص عنده شبحه الخاص به، وهو يعيش في فلك مليء بالسحابات السوداء الخاصة به، تتمخض أحشاؤنا بذلك الضباب الذي يعيق تحررنا وانفلاتنا من القيود والممنوعات.الضباب وجدته ايضا في كندا وأيقنت أنه ليس خاصية تقتصر على البلد الخليجي الذي كنت أعيش فيه.
عندما وصلت من السعودية إلى مونتريال قبل 15 عاما، وجدت المتحدثة أنه لا يكفي أن تكون في بلد حرٍ حتى تكون أنت نفسك حراً. فالحرية تعني، بالنسبة لها، التواصل مع الآخر، التفاعل معه والانتماء إلى فضاء كوني واحد.
كانت درب تطهير الذات والمواجهة مع الأشباح التي تسكن روحها طويلة، شاقة ومضنية، قبل أن تجد هدى عدرا طريقها إلى المصالحة مع جسدها وتحريره من كافة أغلاله.
’’إن الرقابة كانت عنفاً مورس عليّ، وهو تلك الصدمة التي حفزتني ودفعتني إلى الإبداع لأشفى منها، هي الداء والدواء، وإن لم تتمخضِ بها، فإنك لن تحققين الشفاء والمصالحة‘‘.
اختارت هدى عدرا مونتريال للولوج إلى ما كان مستحيلا عليها أن تدرسه وممنوعا عليها أن تمارسه: الفن. وهي أعادت صياغة ذاتها من جديد قلبا وقالبا، جسدا وفكرا من أجل تحقيق المصالحة مع مجتمعها ومع ماضيها.
ربيع الكندي اللبناني غير متصالح مع ذاته
تعرّفنا هدى عدرا على الشاب الكندي اللبناني ربيع الذي يعمل في مكتب التأمين الصحي الحكومي. وعلى خلاف ما يمكن أن نظن، فإن هذا الشاب الذي ينحدر من البلد ذاته الذي تنحدر هي منه، لم يكن لطيفاً وأطلق عليها كل أشكال الأحكام المسبقة متعاملا معها بفوقية..
ربيع تصرف على هذه الشاكلة لأنه ربما لم يحقق المصالحة مع ذاته على الرغم من أنه أتى إلى كندا منذ زمن طويل. إن ما مارسه علي يمكن أن يكون يعكس تفكيره بنفسه وما يتهمني به ربما يكون اتهاما لذاته. مشكلة ربيع تكمن في أنه لم يحقق التصالح مع الماضي. وهو لم يراني، بل شاهد فيّ مرآة تعكس ذاته، لأنه ربما لا زال يشعر إلى اليوم بعدم شرعية وجوده في كندا، ويرمي علي بكل تلك الأعباء التي ترهق كاهله.
تقول المتحدثة إنها لا تقدر أن تفرض طريقة مصالحة وشفاء على الآخر، وعلى كل مهاجر أن يجد بنفسه الوسيلة لتحقيق ذلك، منهم من يجد ذلك في الرسم أو الكتابة أو الرياضة أو المسرح أو السينما، أو في أية وسيلة أخرى تساعد على إخراج شحنات الغضب وتحويلها إلى إبداع وخلق.
السنوات الخمس الأولى في مونتريال لم تكن وردية اللون بالنسبة لهدى عدرا، وهي وجدت صعوبة في الخروج من الشرنقة وتحرير جسدها الذي كان محبوسا طيلة 17 عاما.
الحروف حرة
تتساءل هدى عدرا عما يجدي نفعاً في أن يقوم الكاتب بسرد حكايته للناس، وإلى أي مدى يجوز إقحام الآخر في هذا السرد الذي يخص الكاتب وحده؟
ولكن ما تظهره لنا بعد قليل، صاحبة العرض غير المسبوق، قد يجيب على هذا السؤال.
تطلب هدى عدرا من شخصين في الحضور الصعود إلى خشبة المسرح، تعطي كل واحد منهما نصاً، ليجسد الأول دور الجسد والثاني دور الشبح. وكأنها تريد أن يستخلص جمهورها الفكرة والعبرة في عرضها ويخرج من المسرح وفي رأسه ألف سؤال وسؤال عن غاية وجوده وعن طريقه التي عليه أن يجدها وعما إذا كان فعلا متصالحا مع ذاته وكيف السبيل إلى العبور على جسر الحياة بأمان وسلام.
يجب إيجاد الكلمة والاسترشاد على الطريق الصحيح[…] البكاء هو الوسيلة الوحيدة للتحرر وتحقيق التواصل في مجتمعنا.
الإرهاصات كثيرة والأفكار متشعبة، ولعل التخفي وراء الرموز ليس بالضرورة أمرا سهلا وسلسا، وهذا ربما أثر على إيقاع العرض السوريالي بامتياز الذي قدمته هدى عدرا. أتى الريزم بطيئا وأوقع العرض في الرتابة و الإطناب والإسهاب من دون داعي.
تقول إحدى السيدات المتخصصة بالفنون التي التقيتها بعد العرض ’’إنه كان يمكن اجتزاء 45 دقيقة على الأقل من العرض، إذ كان هناك الكثير من التكرار‘‘.
مما لا شك فيه أن هدى عدرا، الحائزة على جوائز عديدة في كتابة القصيدة المحكية، شديدة الموهبة لكونها شدّت انتباه الحضور على مدى أكثر من ساعتين ونصف الساعة. كانت قادرة على السيطرة على كل أوراقها وحروفها المبعثرة على كامل خشبة المسرح. على طريقة ’’الوان مان شو‘‘، رسمت، كتبت، تحدثت، مثلّت وحركت رسوماتها وحاورت جمهورها ودعته إلى مشاركتها تجربة تطهير الروح وتفريغ الشحنات السلبية.
على الرغم من الجهد والتعب والتركيز الذي يقتضيه عرضها، فإن هدى عدرا تشعر بوطأة الإجهاد والإرهاق قبل تقديم العرض وليس بعده.
كانت فرحة كل الفرح، تملأ وجهها علامات الغبطة والنشوة، ويلمع في عينيها بريق الارتياح والنجاح. تعبت هدى عدرا، التي لا تزال تسكنها أحلام الطفولة، من الكلام وفضلت الاختصار لكي تخرج إلى جمهورها ورفاقها الذين لم ينتظروها في عرض الأمس وذهبوا من دون أن تتبادل معهم النقاش حول ’’الأشكال التي تعبر في حياتها وحياتهم‘‘.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)