[تقرير] عندما تتزاوج الكلمةُ مع الجسد يتبدَّد الألم وتلتئم كلُّ الجراح
“كلمات الجسد” عرض مزج بين الخط العربي والرقص والموسيقى بتوقيع Alchimies التي تقدم مهرجان العالم العربي.
على مسرح Le Gesu (نافذة جديدة) في وسط مدينة مونتريال قُدم مؤخرا عرض بعنوان كلمات الجسد
الذي جمع عدة أنواع فنية في انصهار وانسجام تام. الإدارة الفنية وقّعها الفنان الكندي الشاب ماتياس أوليفيه من فريق مؤسسة الابتكار الفني Alchimies التي تقدم مهرجان العالم العربي في مدينة مونتريال (نافذة جديدة).
مشاهد بصرية مدهشة وسبّاقة جمعت بين الخط العربي الذي قدّمه الخطاط الفذ محمد مخفي والرقص التعبيري بتوقيع الكوريغراف الموهوبة ساندرا صبّاغ على وقع الموسيقى الشرقية التي جمعت موسيقيين متميزين هم محمد مصمودي على العود ومراد حاجي على الكمان وجوزف خوري على الإيقاع وزياد شباط على آلة الناي. وتوّج الحفل بإطلالة متميّزة للفنانة ليلى كوشي.
تتزاوج الحروف مع حركات الجسد التي تعبر عن مختلف المشاعر الإنسانية و تنعتق الأجساد من أغلالها وقيودها لتكوّن فضاءات رحبة وكأن الحرف يلبس الجسد وكأن الحركة تعبر عن الكلمة. بعد الحجر والعزلة بسبب الجائحة وتطويق حركات الجسد، كان لا بد من هذا الانفلات لتعبّر الأجساد من جديد عن جملة مشاعر متناقضة وعن واقع مظلم حينا ومشرقا حينا آخر.
للآه دلالات متناقضة وقد تعني الانفراج أو الشّدة في آن معاً
على غرار القرب الموجود بين الشيء ونقيضه، هكذا هي الآه
التي أطلقها بعدة مستويات ونوتات الراقصون الخمسة المشاركون في العرض الراقص من تصميم ساندرا صبّاغ، في أول لوحة في عرض “كلمات الجسد” تلك الليلة.
يقدّم عرض كلمات الجسد عالما مختلطا يتزاوج فيه الخط العربي مع الرقص الإيمائي المعاصر. هذا العالم تتشكّل فيه حركات الروح في دائرة مكوّنة من الاكتشافات والنشوة والمشاعر العاطفية. يستكشف الفنانون، من خلال عملية إبداعية فردية متعددة التخصصات، تقاطع هاتين اللغتين-الرقص والخط العربي-لجعل العلاقة حميمة للغاية بين الكلمة والجسد، وكشف القوة الابتكارية عند حدوث المواجهة بينهما
كما ترقص الأجساد هكذا ترقص الكلمات أيضا في خلفية المسرح بانسجام وتناغم وانسياب كلّي بين حركة الجسد وحركة كتابة الحرف. تتعاقب هذه المشاهد الملتحمة وتضاف إليها صور وعناوين أغنيات عاشقة لعمالقة الأغنية العربية ولسيد الشعر الغزلي العربي نزار قباني. هذه اللغة البصرية-الراقصة المبتكرة لا تدع أي مجال ليمّل المشاهد أو يتشتت تفكيره بل هي جعلته منشدّا منجذبا بكل العناصر التي تتكوّن أمام عينيه في لوحات جمالية متناسقة ومنصهرة فيما بينها.
هذه المشهدية راقت للجمهور الكندي الفرنسي وأجمع المتحدثون الذين التقيتهم بعد العرض على الاستثنائية والتفرّد الذين تميّز بهما العمل الفني المبتكر الذي قلّما نشاهد مثله في مونتريال
. أحب أيضا الحضور التمازج، الذي اعتدنا عليه في مهرجان العالم العربي، بين الإنشاد الديني الإسلامي والإنشاد الروحي الغريغوري في الكنيسة الغربية. وطبعا تمايلت الأجساد على هذه الإيقاعات الروحية من دون أن تخدش الحياء أو تسيء لقدسية الأديان السماوية.
عمل جيد ومتنوع، كنت أفضل أن تكون هناك مساحة أكبر للغناء، حيث سُحرت بصوت النجمة المتألقة ليلى كوشي.
ليلى كوشي (نافذة جديدة) صعدت إلى خشبة المسرح في المشهد الأخير ليكون ختامها مسكاً مع رائعة نزار قباني التي غناها كاظم الساهر إني خيّرتك
. أطربت السيدة الغوشي الساهرين وأفاضت حالة من السكر والنشوة في أدائها المتميّز والمتمكن.
المتحدث الكندي الصرف استمتع بالأغنية الطربية الشرقية العربية وقال إنه لا يفرق معه فهم الكلمات، وهو سحر بالإيقاع والتلوّن النغمي في النوتة الموسيقية وفي صوت النجمة.
متحدث كندي آخر أعرب عن إعجابه الشديد بترافق سيل الكلمات والحروف العربية على الشاشة خلف الراقص والراقصات الأربعة مع حركات الأجساد والإيقاعات الموسيقية.
كنت نهما لمشاهدة المزيد من هذا التدفق الخلاب للحروف والكلمات بالخط العربي الجميل، شدّت الأبصار وأدهشتها بطريقة تشكيلها وكأنها بدورها ترقص على وقع الجسد وحركاته. مشاهد بصرية استثنائية وددت لو شغلت مساحة أكبر على المسرح.
الجمهور الكندي العربي في الصالة أكد على أن العرض لامس مشاعره وأثرّ فيه لأنه يعبّر عن الواقع وعن جملة المشاعر التي نحياها على هذه البسيطة. ود وخصام، غضب وسكينة، أوجاع وأفراح كربة وانفراج، حجر وحرّية، تابوهات اجتماعية وإلى ما هنالك من قيم ومشاعر وشجون وإرهاصات يتشارك بها أهل الأرض قاطبة.
هذا وأجمع الحضور على أنه لمس الجهود المبذولة من كافة أفراد فريق العمل والدرجة العالية من الاحتراف والتمكن.
عرض كلمات الجسد سيبقى راسخا في الأذهان، سنخرج من المسرح هذه الليلة وفي رأسنا ألف سؤال وسؤال عن حقيقة مشاعر قد تكون مكبوتة في داخلنا وعن تابوهات يجب كسرها في مجتمعنا لنرقى بالوجود الإنساني إلى أعلى درجات الكمال
.
العريُ الهادف البعيد عن الابتذال
على أنغام فيروز التي كتبها زياد الرحباني ليلي يا ليل
، لوحة سولو لمدربة مجموعة الراقصين الكوريغراف ساندرا صبّاغ.
أطلت الراقصة بظهرها للحضور، العاري تماما لتقول بحركات قدميها في شكل خاص وكل عظامها وعروقها الكثير الكثير من الكلمات.
لم يسقط بصرنا أو يتوه للحظة واحدة عن الحكايات التي كانت تسردها ساندرا صبّاغ بجسدها التي تحسن تطويعه ليقدم ويجسّد كل ما تتمخض به من أفكار وهواجس ومشاعر متناحرة فيما بينها.
استطاعت الكوريغراف الكندية اللبنانية في هذه اللوحة المبدعة أن تخبرنا عن وجع المرأة وعن نضالها، عن مشاعر مكبوتة وعن صراخ مدّوٍ، عن صلابة وإرادة قوية وإصرار على المضي قدما، على الرغم من كل العوائق والأحمال والمسؤوليات الملقاة على عاتقها.
تقول لي ساندرا صبّاغ بأن الرقص بالنسبة لها أداة تعبير عن كل ما يخالجها من مشاعر وأفكار وهو يحررها،
تماما كما نراها في هذه اللوحة الجريئة.
برقصي وأنا أدير ظهري للجمهور، أريد أن أتجاهله، ألا أكترث لوجوده ولكل ما يمكن أن يعيق مسيرة بحثي عن ذاتي وكياني وصيرورتي.
لوحة أنوثة شرقية بامتياز تجسد إمرأة أضاعت هويتها وهي تريد أن تجد ذاتها، تدير ظهرها للعالم والمجتمع لعلها تعثر على نفسها وسط كل ذلك الضجيج والضوضاء.
الكريشندو في الأغنية لائم تماما حركات الراقصة التي تعاقبت وكأنها بين مدّ وجزر، هيجان وهدوء، استسلام ومقاومة، إنكسار وتمرّد، إلى أن تنفس الحضور الصعداء عندما أقفلت الأغنية مع الحركة على نوتة أكثر إشراقا وأملاً.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)