نجمة الصحراء الجزائرية تضيء ليالي الأُنس في كيبيك
تقرير سابق نشرناه للمرة الأولى في 12 آب (أغسطس) 2021 ونعيد نشره اليوم —
فيروز أوجيدة، صوت أوبرالي من الجزائر اختار كيبيك موطناً جديداً له قبل عقد من الزمن، فدخل إلى القلوب وأخذ يُثري فنّ الغناء في هذه المقاطعة الكندية مع بقائه وفياً للوطن الأم وثقافاته. نتعرّف في هذا التقرير إلى مغنية السوبرانو التي تحمل اسم سيدة الأغنية العربية، فيروز اللبنانية، وإلى مدير دار ’’أوبرا دو روايوم‘‘ (Opéra du Royaume) الكيبيكية دومينيك بوليان.
التقيتُ بفيروز أوجيدة ودومينيك بوليان يوم أوّل من أمس في متنزه لافون (Parc Lafond) في مونتريال بعد إحيائهما في الأسبوعيْن الفائتيْن سلسلة حفلات في منطقة ساغنيه لاك سان جان (Saguenay – Lac-Saint-Jean) في شمال المنطقة المأهولة من مقاطعة كيبيك.
حصلنا الصيف الفائت على منحة مالية حكومية للحفلات التي يتم الالتزام فيها بالتباعد الجسدي (في ظلّ جائحة ’’كوفيد – 19‘‘)، وهذه السنة قدّمتُ طلباً لمنحة أُخرى لأدعو فيروز إلى جولة فنية، فقدمنا ثماني حفلات في منطقة ساغنيه لاك سان جاك
وحملت الجولة عنوان ’’نجمة الصحراء‘‘ (La diva du désert) ورعاها مجلس الفنون والآداب (CALQ (نافذة جديدة))، وهو مؤسسة عامة تابعة لحكومة كيبيك، وامتدت من 29 تموز (يوليو) إلى 6 آب (أغسطس) وكانت حفلاتها الثماني في الهواء الطلق ومجانية وكلّ واحدة منها في مدينة مختلفة.
ورافقت فرقة ’’أوبرا لو روايوم‘‘، مع دومينيك بوليان على البيانو، فيروز أوجيدة في هذه الجولة التي قدّمت فيها مغنية السوبرانو الجزائرية المولد والنشأة لجمهورها الكيبيكي أغنيات ألبومها الأول الذي يحمل العنوان نفسه والمتوفّر على قرص مضغوط (CD) منذ حزيران (يونيو) الفائت وعلى الإنترنت ابتداءً من الشهر المقبل.
وأتيح للجمهور الكيبيكي سماع أغنيات تقليدية مغاربية ومشرقية وكلاسيكية بصوت فيروز أوجيدة، وكان ردّ فعله ’’بالفعل جيداً جداً‘‘ يضيف دومينيك بوليان، وبكى الجمهور من شدة التأثر عند سماعه بعض الأغنيات ومن بينها ’’لبيروت‘‘.
ويتضمّن ألبوم ’’نجمة الصحراء‘‘ أغنية ’’لبيروت‘‘ التي أدّتها سيدة الأغنية العربية، فيروز، للمرة الأولى عام 1984 عندما كان وطنها لبنان وعاصمته بيروت غارقيْن في جحيم الحرب الأهلية. وبرزت هذه الأغنية مجدداً في لبنان وفي بلدان الانتشار اللبناني حول العالم عقب انفجار 4 آب (أغسطس) 2020 في مرفأ بيروت الذي أوقع نحو 220 قتيلاً و6500 جريح ودمّر أجزاء واسعة من العاصمة اللبنانية وشرّد مئات الآلاف من سكانها، وأيضاً مع حلول الذكرى السنوية الأولى لهذا الانفجار الهائل التي تزامنت مع جولة فيروز أوجيدة الكيبيكية.
كنا نقوم بتسجيل أغنيات ألبوم ’’نجمة الصحراء‘‘ عندما وقع انفجار بيروت. شعرنا، العازفون وأنا، بشكل عفوي بالحاجة لنعبّر للبنانيين ولبيروت ولبنان عن دعمنا لهم دون تأخير. وماذا بإمكاننا أن نقدّم للبنانيين في المأساة التي كانوا يعيشونها؟ نقدّم من خلال الموسيقى والغناء أفضل ما في أنفسنا، هما طريقتنا في التكريم وفي تقديم القليل من الأمل والعزاء، فكان قرار إدخال أغنية ’’لبيروت‘‘ إلى الألبوم
أغنية ’’لبيروت‘‘ بصوت السوبرانو الكندية الجزائرية فيروز أوجيدة وهي متوفرة على ألبومها ’’نجمة الصحراء‘‘ (La diva du désert):
وشكّلت ’’لبيروت‘‘ بصوت فيروز أوجيدة ’’اللحظة القوية‘‘ في الحفلات الثماني في ساغنيه لاك سان جان، يقول دومينيك بوليان الذي أعدّ لهذه الأغنية ’’توزيعاً موسيقياً رائعاً‘‘ حسب مغنية السوبرانو الكندية الجزائرية.
’’اتصلنا بمغنين محترفين استثنائيين (…) وأعطيتُ أفضل ما لديّ‘‘ وكانت النتيجة ’’لحظة مهيبة‘‘، تضيف فيروز أوجيدة عن أغنية ’’لبيروت‘‘ التي أدتها أمام الجمهور الكيبيكي.
في كلّ نوتة موسيقية من ’’لبيروت‘‘هناك الكثير من التعاطف والكثير من الحب والكثير من الدعم والكثير من الإنسانية
وكلمات ’’لبيروت‘‘ (’’لبيروت من قلبي سلامٌ…‘‘) هي للشاعر اللبناني جوزيف حرب (1944 – 2014) الذي غنّت مواطنته فيروز العديد من قصائده. أمّا موسيقى الأغنية فمأخوذة من ’’كونشيرتو دي أرانخويث‘‘ (Concierto de Aranjuez) للمؤلف الإسباني خواكين رودريغو (1901 – 1999).
ولدومينيك بوليان، صاحب الخبرة في تسجيل ألبومات الاستوديو، دور محوري في ألبوم ’’نجمة الصحراء‘‘ يتخطى العزف على البيانو، فهو أعدّ التوزيع الموسيقي لكلّ مقطوعات الألبوم ونسّق العمل مع الموسيقيين وأشرف على الإنتاج.
تابعتُ عملية إنتاج ’’نجمة الصحراء‘‘ بأدق تفاصيلها، أردتُ للمنتَج أن يكون استثنائياً. نحن فخورون جداً جداً جداً من هذا الألبوم، وكان تركيزنا على إنتاجه خلال الجائحة مصدر سعادة كبرى
ويرى دومينيك بوليان أنّ هناك ’’ثراءً لا يُصدَّق‘‘ في الموسيقى الشرقية، ’’وهذا أمر غير معروف للأسف هنا في كندا‘‘.
’’خلال قيامي بالتوزيع الموسيقي أردتُ حقاً الحفاظ على جوهر الموسيقى، لم أكن أرغب بتغيير كل شيء، لكن إدخال بعض الآلات الغربية مثل البيانو والتشيلو، وهي آلات، أجل، نجدها في الموسيقى العربية، لكنني حاولت أن أشتغل على هذه الموسيقى لخلق مزيج بين الموسيقى الغربية والموسيقى الشرقية، بين الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى التقليدية في الشرق الأوسط‘‘، يشرح دومينيك بوليان قبل أن تضيف فيروز أوجيدة أنّ النتيجة كانت ’’اندماجاً ناجحاً جداً‘‘.
انتظرتُ 20 سنة، مارستُ الموسيقى 20 سنة وانتظرتُ هذه اللحظة منذ زمن بعيد بفارغ الصبر، ويسرني جداً أن أكون قد انتظرت من أجل الحصول على هذه النتيجة الجميلة
وبالعودة بالزمن إلى الوراء كانت جدة فيروز أوجيدة لأبيها من تمنّى أن تحمل حفيدتها المولودة الجديدة اسم سيدة الأغنية اللبنانية التي تحظى بتقدير رفيع في كلّ العالم العربي، واستجابت والدة الطفلة لهذا التمني.
ونشأت فيروز أوجيدة في كنف والديْن يعملان في قطاع النفط في مدينة حاسي مسعود في ولاية ورقلة الجزائرية. والدها من مدينة مليانة في شمال الجزائر ناحية الغرب، ووالدتها من مدينة عين مليله إلى الجنوب من قسنطينة، كبرى مدن الشرق الجزائري.
وترعرعت فيروز أوجيدة في حاسي مسعود الصحراوية مع شقيقاتها الثلاث ومنها استوحت عنوان ألبومها الأول، ’’نجمة الصحراء‘‘.
كنا نقضي عطلات نهاية الأسبوع على الكثبان الرملية في منطقة حاسي مسعود مع وجباتنا الخفيفة، وكنا نقوم بالتنزّه هناك. نشأتُ هناك، لذا أشعر بالارتباط بالصحراء وأشعر وكأنني فتاة الصحراء
وفي حاسي مسعود كانت أغنيات فيروز اللبنانية رفيقة درب الشابة الجزائرية.
كان لديّ المجموعة الكاملة لأغنيات فيروز على اسطوانات فينيل وكنتُ أستمع إليها عندما أعود من المدرسة. أغنياتها فتحت لي عالماً كاملاً على الموسيقى
وبعد أن أنهت دراستها المدرسية في حاسي مسعود التي عشقتها، قصدت فيروز أوجيدة الجزائر العاصمة بهدف التخصص في الترجمة الشفوية والتحريرية في إحدى الجامعات. وبما أنها كانت تفتقد في حاسي مسعود المراكز الثقافية والمعاهد الموسيقية لم تتأخر في التسجّل في معهد موسيقي في العاصمة درست فيه الموسيقى الأندلسية مدة سنة.
وبعد ذلك سمعت فيروز أوجيدة عن وصول أستاذة روسية في الغناء الأوبرالي إلى الجزائر العاصمة وبدئها التدريس، فلم تتأخر في البحث عنها والتعرف إليها.
وهكذا تمّ اللقاء بتاتيانا سيرغيفا صاولي التي استقبلتني في صفّها للغناء الأوبرالي وجعلت مني مغنية الأوبرا التي أنا عليها اليوم
وتاتيانا سيرغيفا هي قرينة قائد الأوركسترا السمفونية الوطنية في الجزائر رشيد صاولي (1952 – 2017) الذي تعرّفت إليه عندما كان يَدرس الموسيقى في العاصمة الروسية موسكو.
وأنهت فيروز أوجيدة دراسة الغناء الأوبرالي التي استغرقت ست سنوات وحصلت على منحة لتحسين أدائها الغنائي في ميلانو، عاصمة الأوبرا الإيطالية.
وحصلت على منصب مغنية منفردة (صولو) في الأوكسترا السمفونية الوطنية في الجزائر وظلت فيه عدة سنوات، كما مثّلت بلادها في عدة مهرجانات دولية.
وتغني فيروز أوجيدة بالفرنسية والعربية والأمازيغية والروسية والإيطالية والإسبانية والألمانية.
’’أقوم باستعادة الأغنيات التراثية في بلدي لأنها جزء من ثقافتنا الغنية، فأؤدّي أغنيات جزائرية عربية وأمازيغية. أمثّل الثقافات المتواجدة في بلدي وهو غني جداً بها‘‘.
أما الزيارة الأولى لفيروز أوجيدة إلى كندا، وتحديداً إلى مقاطعة كيبيك، فكانت في صيف عام 2006 لتفقد الأهل الذين كانوا قد سبقوها إليها، وتبعتها زيارتان عام 2008، واحدة شتاءً والأُخرى صيفاً.
وعام 2010 قررتُ الاستقرار في هذه الأرض المضيافة التي أصبحت أرض قلبي. وأنا مسرورة جداً في هذه الأرض حيث تمكنتُ من تحقيق مشاريعي الكبرى وحيث التقيتُ بأشخاص استثنائيين، وتعاوني مع موسيقيين استثنائيين كان فعلاً هدية من السماء
وفي مقاطعة كيبيك واصلت فيروز أوجيدة تدريب صوتها تحت إشراف اختصاصيين وقدّت أول عروضها الفنية ’’أوبرا الصحراء‘‘ عام 2013 في إطار ’’مهرجان العالم العربي‘‘ (FMA) في مونتريال.
’’في هذا العرض لم أؤدِّ سوى أغنيات تقليدية رحّب بها الجمهور الكيبيكي بحماس كبير، وهنا (في مونتريال) كان شعوري وأنا أغنّي لأَرضي وأستعيد كل الأغنيات التي داعبت طفولتي حتى أكثر قوة‘‘، تقول فيروز أوجيدة.
وفي عام 2017 قدّمت السوبرانو الكندية الجزائرية عرضاً في ’’مهرجان العالم العربي‘‘ بعنوان ’’فيروز تغنّي لفيروز‘‘ أدّت فيه باقة من أجمل أغنيات نجمتها اللبنانية. ’’هو تكريم كان عليّ أن أقدّمه لفيروز العظيمة أنها كانت مصدر إلهام كبير لي‘‘، تؤكد فيروز أوجيدة.
أمّا أوّل أغنية فيروزية أدّتها فيروز أوجيدة أمام الجمهور منذ بداية مسيرتها فكانت ’’حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي‘‘، وكان ذلك في مهرجانٍ في ميلانو مثّلت فيه العالمَ العربي.
وعام 2018 لبّت فيروز أوجيدة ودومينيك بوليان دعوة لتقديم عرض في دار الأوبرا في الجزائر العاصمة. وشكّل هذا الحدث ’’بداية قصة عظيمة، فنية وإنسانية وودية‘‘ لمغنية السوبرانو الكندية الجزائرية مع من تعتبره ’’شقيقاً لم تلده أمي‘‘.
وتختم فيروز أوجيدة بشهادة في أقرب الناس إلى قلبها.
أود أن أشيد بعائلتي الحاضرة أبداً من أجلي والتي شجعتني كثيراً. عندما وصلت إلى كيبيك استقبلتني شقيقتي الكبرى وكلّ عائلتي، كنت محاطةً بالكثير من الحب، وأود أن أشير إلى أهمية أن يكون المرء محاطاً بأحبائه ليقوم بما يحبه، كما أودّ الإشادة أيضاً بزوجي الذي يدعمني بشدّة
(تقرير من إعداد فادي الهاروني)